مقالات
حكاية البنت قَرْطَلَة (1-2)
كانت قَرْطَلَةْ في الرابع عشرة من عمرها، وكانت جميلة، وبحسب تعبير نساء القرية: "دمّها حالي"، لكن امها أُلُوْف لم تكن تتركها في حالها.. طوال اليوم وهي تناديها وتطلب منها أن تنجز هذه المهمة أو تلك، ولا تتركها ترتاح، وكأنه ليس من حقها أن تأخذ قسطا من الراحة.
وكانت كلما طلبت منها أن تنجز عملا من أعمال البيت تُرفِق طلبها بدعوة.. تدعو عليها وتقول لها:
- "يا قرطلة احلبي البُقْرِي لِكْ جنِّي..
-يا قرطلة ادبِشِي اللبن لِكْ جني..
-يا قرطلة اطحِني الحب لِكْ جني..".
وكانت قَرْطَلة تُسرع في إنجاز المهام التي تطلب منها أمها إنجازها، ولا تتضايق منها حين تدعو عليها.
وذات يوم، وقد عادت وقت المغرب من عُرْس " عبده الزَّغِير"، وهي بكامل زينتها طلبت منها أمها أن تسرع وتحمل جرّتها، وتذهب لتملأها بالماء من "الحِسْوْة"، ولم تنسَ وهي تطلب منها الذهاب لجلب الماء أن تدعو عليها:
-يا قَرْطَلة اسرحي اسْأبِي لك جني".
وكعادتها في تنفيذ طلبات أمها، حملت قَرْطَلة جرتها، ومضت صوب الحِسْوَة، وكانت الحِسْوة أشبه بمغارة على درج، والماء ينزل من جوانبها على هيئة خيوط، ويتجمَّع في قاعها، وكانت تلك أول مرة تذهب فيها قَرْطَلة إلى الحِسْوة وقت غروب الشمس وهي بكامل زينتها.
وبعد أن ملأت جرّتها بالماء، أحسَّت بخدر لذيذ، وبقشعريرة لذيذة تسري في كامل جسدها، أعقبها شعور بالفتور حتى إنها بعد أن وضعت جرة الماء فوق رأسها، وحاولت النهوض لم تستطع أن تنهض بالسهولة نفسها، التي كانت تنهض بها في المرات السابقة، لكنها بعد عودتها إلى البيت، وبعد أن نفضت عنها ملابسها وجدت بللًا في سروالها، وداخلها شعور بالرعب.
بعد مرور أسابيع على ذهابها إلى الحسوة، وقد نست الحادث، شعرت قَرْطَلة بحالة غثيان وقيء، وكانت تبدو متعبة، ومزاجها متقلِّب، وعندما عرضتها أمها على حاكمة الخبيرة بأمراض النساء، شهقت حَاكِمة من الفزع، وأفزعت بشهقتها تلك أمها أُلُوْفْ، التي راحت تسألها وتقول لها:
- "مو في يا حاكمة؟! فجَّعتيني".
قالت لها حَاكِمة، وهي تهمس في أذنها: "قَرْطَلَةْ حامل يا أُلُوف".
وبدلا من أن تسأل بنتها قَرْطَلة عن حملها، وكيف حدث، راحت تضربها أمام حَاكِمة، وتطلب منها أن تعترف، وتذكر اسم الفاعل الذي كان السبب في حملها!!
ولحظتها أجهشت قَرْطَلة بالبكاء، وراحت تبكي، وتنفي أن يكون أحدهم قد اقترب منها، أو لامسها، وطلبت منها حَاكِمة أن تتذكر ماحدث معها في الأسابيع الماضية.
وبعد أن راحت قَرْطَلة تسترجع أحداث الأيام التي مضت، تذكرت ما حدث لها في الحِسْوة حين ذهبت لجلب الماء، وقالت لها إنها ذهبت وقت المغرب، وهي بكامل زينتها، ولم تنسَ ذكر دعوة أمها.
عندئذٍ قالت حاكمة لأمها:
- "بنتك -يا أُلُوف- حامل من جني، وانتِ السبب".
وراحت تلومها، وتحمّلها مسؤولية ما جرى؛ كونها أرسلتها وقت المغرب إلى الحِسْوة، وهي بكامل زينتها، فضلا عن أنها دعت عليها، وقالت لها حاكمة تلومها:
- "الجني -لما سمعك يا أُلُوف تدعي له- فرح، ودخل على بنتك مثلما يدخل الحَرِيْ على الحَرِيْوَة".
ولحظتها ارتعبت أُلُوْف من كلامها وقالت لها:
-"يا حَاكِمة لاتفجِّعِيْنِيْشْ وتقولي قَرْطَلة حامل من جني، حرام عليك".
قالت حاكمة: "حرام عليك انتِ كيف ترسلي بنتك وقت المغرب للحسوة، وهي حازب ومُحَوْمَر ومُبَوْدَر ومُعَطُّر، وتِدْعَي عليها وانت داري أن الوقت مغرب"!!.
وراحت حَاكِمة تسألها، وتقول لها:
- "قولي الصدق يا أُلُوف انتِ دعيتي على بنتك وقلتِ لها: لك جني أو لا؟".
واعترفت أُلُوف بأنها دعت عليها بالجني، لكنها برّرت ذلك بأنها دعت بلسانها، وليس بقلبها:
- "دعيتو -يا حاكمة- بلساني مُوْ بقلبي".
قالت حاكمة: "من قلبك والا من لسانك.. الدعوة وقت المغرب تِصْبَطْ، ودعوتك صِبِطِت يا ألوف".
لكن حَاكِمة، وقد رأت مدى فزع أُلُوف على بنتها، راحت تخفِّف عليها، وقالت لها إن "بكارة قَرْطلة سليمة".
وفرحت أُلُوف، لكنها أبدت استغرابها من كلام حَاكِمة، وراحت تتساءل كيف تكون بنتها حامل وبكارتها سليمة!!
قالت لها حَاكِمة إن "الجن عندما يدخلون على بنت بكر من بنات الإنس لا يمزّقون بكارتها كما يفعل الإنس".
قالت الوف - وقد ارتاحت لكلام حاكمة-: "هيَّا الحمد لله هو ذا اللي كنتو خايف منُّه".
وعند العودة من بيت حَاكمة كانت قَرْطَلة تبكي، وأمها تحاول التخفيف عنها، وتقول لها إن عليها أن تحمد الله طالما أن بكارتها سليمة، لكن ما حدث بعد مرور شهرين هو أن بطن قَرْطَلة انتفخت، واستمرت في الانتفاخ، ومن جديد فُزِعت أمها، وذهبت إلى حَاكِمة تطلب منها تنزيل ابن الجني، لكن حَاكِمة رفضت أن تنزِّل الجنين؛ بسبب خوفها من رد فعل الجني الأب.
وقالت لها:
- "لو قَرْطَلة -يا ألوف- حملت من إنسي كنت أقدر أنزّل ابن الإنسي الزنوة، لكن ما دام اللي حبلها جني مو قدّرني، والله لايجي لي أبوه، ويجوا لي الجن كلهم، يتمرَّغُوا بي".
وحدث أن شاع خبر حمل قَرْطَلة من الجني، وشطر القرية إلى شطرين:
-شطرٌ تعاطف مع قَرْطَلة، وراح يلوم أمها أُلُوْف، ويقول إنها السبب في حمل قَرْطَلة من الجني.
والشطر الآخر راح يلعن قَرْطَلة ويلومها، ويقول إن الجني ما كان سيقترب منها، ويدخل عليها لو أنها ذهبت إلى الحِسْوة كما تذهب جميع صبايا ونساء القرية، ولكنها ذهبت وهي بكامل زينتها، ورائحة عطرها تسبقها، فضلا عن أنها ذهبت وقت المغرب، وهي تعلم أن وقت المغرب هو وقت خروج الجن.
أما الأطفال فكانوا كلما أبصروها خارجة من بيتها جَرَوْا خلفها يصيحون قائلين:
-"جني حبّل قَرْطَلة.. دخَّلُهْ للمحْبَلَة".
وبعد حملها من الجني، ذهب جمالها، وبدت أكبر من سِنها، ثم إنها لشدة خوفها من الأطفال، ومن نظرات النساء والصبايا الموجعة، راحت تحبس نفسها في البيت، وأصبحت تكره أمها، وتتهمها بأنها السبب في حملها من الجني، وصارت أمها أُلُوْف تقوم بكل المهام التي كانت تقوم بها، وعند ذهابها لجلب الماء من الحِسْوة أو من النّبع كانت النساء يستوقفنها، ويسألنها عن بنتها قَرْطَلة: كم شهرا مر على حملها من الجني؟! وكم شهرا بقي حتى تضع مولودها؟!".. كان بهن فضول، وينتظرن ولادتها بشغف ليرين هل ستنجب جنيا أم جنية!!
وبعضهن كان لديهن شك، وكن يشككن في رواية حملها من جني الحِسْوة، ويتهامسن بأن قرطلة تحب فتىً من فتيان القرية، وواعدته يقابلها في الحسوة، ولأنه حبيبها فقد ذهبت إليه وهي بكامل زينتها، وقلن إنها تتستر عليه، وتلقي بالمسؤولية على الجن.
وكانت العجوز سُفَرْجَلَة تشيع وتروِّج وتقول جازمة:
- "قرطلة تكذب - يا نسوان - حبلت من إنسي، وتقول إن اللي حبلها جني".
وكانت الأيام تمر والقرية كلها في حالة ترقب وانتظار؛ ترقب انتهاء فترة الحمل، لكن قَرْطَلة، بعد مرور تسعة أشهر على حملها- لم تلد، ثم مر عام وبطنها ما زالت منتفخة، وكانت النساء يستغربن ويتعجبن من طول فترة حملها، وحين سألن حَاكمة عن السبب قالت لهن:
-"الجن -يا نسوان- من ذرية إبليس، وربِّي من كُرهه لإبليس وذريته حكم على نسوان الجن بتسع سنين حمل".
وعندما عرفت قَرْطَلة بأن حملها سوف يطول، ويمتد لتسع سنوات، خرجت من محبسها،وعند خروجها صاح الأطفال:
- "جني حبَّل قَرْطَلة .. دخَّلُه للمحبلة".
وحين جرت قَرْطَلة لتهرب منهم، جروا خلفها، وحدث أن ابن وكيل الشريعة رشقها بحجر، وشج رأسها، وأدماها، وكان من قَرْطَلة، وقد رأت دمها يسيل، أن جرت خلفه، ومسكت به، ومن شدة غضبها عضته، وغرست أسنانها في لحم رقبته، حتى انبجس الدم غزيرا، ويومها عاد الطفل إلى أمه وهو يبكي، وحين سألته أمه عمن عضه قال لها:
-"قَرْطَلة الزانية".
وعندها ثارت ثائرتها، وصعدت إلى السقف تصرخ، وتشهِّد أهل القرية، وتقول لهم:
- "اشهدوا لي على قَرْطَلة الكلبة الزانية جِدِمَت ابني بالرقبة، وخَرَّجَت له الدم".
ومن سقف بيتها ردت عليها أُلُوف أم قَرْطَلة، وقالت لها إن ابنها هو البادئ.
وسرعان ما نشب بين المرأتين عراك، ورحن يتكالمن، ويتراشقن بالكلمات، لكن زوجة وكيل الشريعة راحت تستقوي بزوجها حمود السلتوم (وكيل الشريعة)، وقالت تهدد أم قَرْطَلة إن زوجها سوف يقتاد بنتها إلى الحكومة، وإن صاحبه القاضي غالب التنكة سوف يحكم عليها بحكم الشريعة، وهو القتل.
ومن سقف بيتها، قالت لها الكافرة شُجُون ناشر إن الشرع يحكم بجلد الزانية، وليس بقتلها.
قالت زوجة وكيل الشريعة:
- "الزانية اللي تزني مع إنسي يجلدوها، لكن قَرْطَلة زنت مع جني، واللي تزني مع جني يقتلوها".
وفي المساء عند عودة وكيل الشريعة من الحكومة، استقبلته زوجته بالبكاء، وراحت تشكو له البنت قَرطَلَ، وتحرِّضه ضدها، وتطلب منه أن يقتادها إلى الحكومة ليحكم القاضي غالب بقتلها، ويخلِّص القرية منها.
قال لها زوجها حمود السلتوم: "ومن قال لك إن اللي تزني مع جني يحكموا عليها بالقتل؟!".
قالت، وقد استفزها كلامه:
-"قالت لي الشريعة - يا وكيل الشريعة".
واردفت قائلة له بنبرة تهديد:
-"والله -يا حمود- لو ترجع من الحكومة وقَرْطَلة معك شرجع لي بيت اهلي، وشتجي بيني وبينك".
وبعد صلاة العشاء، ذهب وكيل الشريعة إلى بيت أُلوف (أم قَرْطَلة)، وقال لها إنه لم يأتِ ليشكو بنتها، التي عضت ابنه، وغرست أسنانها في لحم رقبته، وإنما جاء من أجل تطبيق الشريعة.
وأخبرها بأنه سيأخذ قَرْطَلة معه، في الصباح، إلى بيت الحكومة حتى يحكم القاضي غالب عليها بحكم الشريعة.
وكانت أُلُوف تخاف من وكيل الشريعة، وخافته أكثر بعد سماعها كلام زوجته، وهي تهدد بقتل بنتها.
ولشدة خوفها من أن يقتل بنتها انتقاما لابنه راحت تتوسل إليه، وتقول له:
- "سالتك با لله -يا حمود- لا تشل بنتي للحكومة يقتلوها".
وأبدت استعدادها أن تدفع له الأرش الذي يطلبه للضرر الذي لحق بابنه مقابل أن يترك بنتها، لكن رغبته في الانتقام تغلبت على طمعه في المال، وحتى يقنعها بتسليمه بنتها راح يطمئنها، ويقول لها:
- "قَرْطَلة -يا أُلُوف- زنت مع جني، والزنا مع الجن مش هو حرام، وربنا ما ذكره في القرآن ولا حرّمه"، ووعدها بأن الحاكم سوف يحكم ببراءتها، وستعود معه ومعها شهادة براءة.
وكانت قَرْطَلة تبكي، ولا تريد الذهاب إلى بيت الحكومة، لكن أمها بعد كلام وكيل الشريعة راحت تطمئنها، وتهدئ من روعها، وتقول لها بصوت لا يكاد يُسمع:
- "يا بنتي، ديننا حرَّم الزنا مع الإنس، لكن مع الجن مش هو حرام".
وفي صباح اليوم التالي، مضت قَرْطَلَة خلف وكيل الشريعة، حمود السلتوم، وهي ترتجف من الخوف.
يتبع