مقالات
حكاية الرَّجل المَيِّت (الفصل الخامس)
عندما عرَف أهل القرية من سُفَرجَلة أن عساكر الدولة لاذوا بالفرار، داخلهم شعور بالخوف من الرجل المَيِّت، وأولئك الذين كانوا غير مصدقين بأن سلطان المِلْح عاد من البحر ميِّتا صدقوا بعد هروب العسكر، وقالوا:
- "لو هو حي كان با يخاف من عسكر الدولة، وبا يخرج، لكن لأنه ميِّت العسكر خافوا منه وهربوا".
وبعد هروب العسكر، راحت سُفَرْجَلَة تحذّر نساء القرية من الميِّت، وتطلب منهن أن يرجعن إلى بُيوتهن قبل المغرب، وقبل أن يقوم الميِّت، وقالت لهن:
- "الميِّت يموت النهار، ويقوم من الموت وقت المغرب، ويجلس جنب الطاقة".
وأردفت قائلة لهن: "إن كل من يمر وقت المغرب، ويلتفت جهة الميِّت، سوف يُصاب بالشلل، وقد يموت".
وراحت تذكّرهن بما حدث للجِدة فَازِعَة، وكيف أنّها أصيبت بالشلل؛ لأنها أبصرت الرجل الميِّت، وقت المغرب، وهو راكب فوق حمار ميِّت.
ولشدة خوفهن على أطفالهن، راحت الأمهات يحذِرن أولادهن من التأخر في العودة إلى بيوتهم، ويطلبن منهم أن يعودوا قبل أن تغرب الشمس.
وقلن لهم إن عليهم عند مرورهم من أمام بيت الرَّجُل الميِّت أن يمروا مرورا سريعا وعيونهم مثبتة في الأرض، ولا يلتفتوا ناحية بيت الرّجُل الميِّت.
وحين سأل الأطفال أمهاتهم عن السبب، قلن لهم:
"الميت يجلس جنب الطاقة، واللي يلفت لجهة الطاقة ويبصر الميِّت وقت المغرب يبكر ميِّت، ولو ما متش يوقع به شلل مثل فَازِعَة".
وبعد تحذيرات الأمهات لهم، كان الأطفال يمرون من أمام بيت الرَّجُل الميِّت مروراً سريعاٌ وعيونهم ملتصقة بالأرض.
وذات يوم، وهم في طريق عودتهم إلى بيوتهم، حدث ما يشبه التحدِّي بين الطفل فُرَيْسْ بن قُرُنْفُلَة وبين أترابه من أطفال القرية، وكان الطفل فُرَيْسْ يتيم الأب في الثامنة من عمره، ولأنه يتيم وليس له أب يحُدُّ من حريته في الحركة، فقد نشأ متحررا من سلطة الأب، ومتحررا من الخوف الذي تزرعه الأمهات في نفوس أطفالهن بحُجة خوفهن عليهم، وأما أمه قُرُنْفُلة فكانت من حبها له، ولأنه وحيدها وليس معها غيره، تتركه وشأنه، وتترك له الحبل على الغارب، حتى إنه الوحيد الذي كان يعود إلى بيته في أي وقت يشاء بعد المغرب أو بعد صلاة العشاء.
ولأنه بلا أب، كان الأطفال يغيرون منه، ويحسدونه، ويتمنون لو أنهم أيتام مثله.
ولشدة غيرتهم وحسدهم، كانوا يسخرون منه، ويقولون له إنه ابن امرأة:
"أنت ابن مَرَةْ".
لكنه لم يكن يزعل منهم، أو يغضب عندما ينسبونه إلى أمه قُرُنْفُلَة، وكان يشعر في قرارة نفسه بأنهم يحسدونه؛ لأنه من دون أب؛ ولأنه حُر، والوقت ملكه، ولأن أمه قُرُنْفلُة لا تصعد وقت المغرب إلى سطح بيتها، وتطلب منه سرعة العودة إلى البيت، فيما كانت أمهاتهم كل يوم وقت المغرب يصعدن إلى سطوح بيوتهن ينادينهم ويطلبن منهم أن يعودوا ويسرعوا بالعودة إلى بيوتهم، وكانت أصواتهن، وهن ينادينهم، ويكررن النداء، تزعجهم، وتضايقهم.
ولشدة ما كانوا ينزعجون ويتضايقون من نداءاتهن المتكررة، كانوا يعودون غاضبين، ويقولون لهن محتجين:
"لِمَوْ قُرُنْفُلة ما تطلعش السقف تصيِّح لابنها فُرَيْس مثلكن، وتقول له: فِيْسَع روِّح؟!".
وبعد عودة الرَّجُل الميِّت، زادت مخاوفهن، وتعاظم قلقهن على أطفالهن الذين بدورهم ازدادوا انزعاجا منهن، حتى لقد صاروا في قرارة أنفسهم يتمنون لو أن لهم أمهات مثل قُرُنْفلة أُم فُرَيْس، لكن أولئك الأطفال الذين كانوا يحسدونه، ويتمنون لو أن لهم أمهات مثل أمه، كانوا في الوقت نفسه يحتقرونه.
وفي ذلك اليوم، الذي حدث فيه ما يشبه التحدِّي، قال لهم فُرَيْس إنه لا يخاف من الرَّجل الميِّت، وإن بمقدوره أن يمر من أمام بيته مرورا عادياً، ومن دون خوف.
قالوا له، وقد استفزهم كلامه:
"والله ما تقدر".
قال لهم فُرَيْس إنه يقدر، ليس فقط أن يمر من أمام بيته مرورا عاديا، وإنما يمكنه أن يلتفت إليه، ويسلِّم عليه، ويقول له:
"السلام عليكم يا سلطان.. كيف حالك يا سلطان".
وحينها راح أولئك الذين يحسدونه يتهكّمون عليه، ويسخرون منه، ويعيِّرونه بأنه ابن امرأة، ويتحدّونه، ويقولون عنه إنه ابن امرأة، ولا يستطيع أن ينظر إلى وجه الرَّجُل الميِّت،
قال لهم: "والله إننا أقدر عليكم يا سلطان".
قالوا وهم في غيظ منه:
"نتحداك يا بن قُرُنْفُلة".
قال لهم فُرَيْس: "تشارطونا!!".
قالوا: "نشارطك".
قال: "أيش با تندولي لو قدرت؟".
وبعد أن تغامزوا فيما بينهم، قالوا له:
"نشتري لك حلاوة من الدُّكان".
قال معترضا: "حلاوة، لا"٠
قالوا: "نشتري لك هريسة".
قال، وهو يواصل اعتراضه:
"هريسة، لا".
قالوا: "نشتري لك شِكْلِت، شوكلاتا؟".
قال لهم: "شِكْلِتْ، لا".
قالوا له: "طيّب قل لنا مو هو اللي بنفسك؟".
قال لهم: "طاحونية".
قالوا له: "واللي يترجَّع؟".
قال لهم فُرَيْس:
"اللي يترجَّع أيركم بامه، ولو أنتم ترجَّعتم أيري بامهاتكم".
أيامها كانت حلوى الطّحينية حديثة الدخول للقرية، ولم تكن تشبه غيرها من الحلويات. وكانت في نظرهم مقياسا للسعادة؛ بها يقيسون سعادتهم. وكان الذي يأكلها ويتذوّقها ويطعمها يعد شخصا محظوظا وسعيدا ومحسودا، لكن فُرَيْس بن قُرُنْفلة كان سيِّئ الحظ، وكان بسبب فقر أمه محروما من حلوى الطحينية، لكنه يومها، وقد دخل في التحدِّي وفي الرهان كان يريد من تحديه لأترابه الذين ما انفكوا يحتقرونه، ويعيرونه بأنه ابن امرأة، أن يضرب عصفورين بحجر:
- يثبت لهم بأنه ليس جبانا مثلهم، وفي الوقت نفسه يكسب الرهان، ويفوز بحلوى الطحينية، التي طالما تمناها وحلم بها.
ولحظة اقتربوا من بيت الرَّجل الميِّت سلطان المِلْح، اجتاحهم شعور بالرّعب، وجروا مسرعين، ومرعوبين، وعيونهم ملصقة بالأرض، ثم وقد تجاوزوا بيت الرَّجل الميِّت وشعروا بالأمان، توقفوا ينتظرونه، وراحوا يراقبونه؛ ليروا ما الذي سوف يفعله، وهل سيجرؤ على التوقف أمام بيت الرُّجل الميِّت، والنظر إلى وجهه، والسلام عليه، أم أنه سيجبن ويخاف؟!
ومن المكان، الذي توقفوا فيه، أبصروه يمرّ مروراً عادياً، وراوه يسير ببطءٍ، ويتقدّم بإيقاع بطيء، وعندما أصبح قبالة النافذة، التي يجلس الرَّجل الميِّت بجوارها، استجمع كل ما لديه من قوة، ثم التفت جهة النافذة، وصاح قائلا:
"السلام عليكم يا سلطان.. كيف حالك يا سلطان؟!".
وعندئذ شعر بخوف يكاد يسحقه، واندفع يجري باتجاه أترابه، وعند وصوله المكان الذي توقف فيه أترابه، كان شاحبا شحوب الموتى.
لكن الأطفال، الذين كانوا يحبونه، استقبلوه استقبال الأبطال، وراحوا يسألونه عن الرَّجل الميِّت، وحكى لهم فُرَيْس، وهو يسترد أنفاسه، وقال لهم إنه أبصره جالسا بالقرب من النافذة مرتديا الكفن:
"أبصرتوه جالس جنب بالطاقة، ولابس الكفن".
كان يكلمهم بصوت مرتعش ومتقطع ومفعم بالخوف، لكن أولئك الذين راهنوه وخسروا الرهان كانوا موتورين منه.
ولشدة غيرتهم، حقدوا عليه وكذَّبوه، وقالوا إنه لم يلفت ناحية الرَّجل الميِّت، وأنه كذّاب.
وحلف فُرَيْس يميناً بأنه أبصر الميِّت، وسلَّم عليه.
وشهد أطفال القرية، الذين كانوا خارج لعبة الرهان، أنهم شاهدوه وهو ينظر ناحية النافذة، التي يجلس الميِّت بجوارها، وسمعوه وهو يسلم عليه، ويسأله عن حاله.
لكن أولئك، الذين تحدّوه وراهنوه وخسروا الرهان بدلا من أن يصطحبوه إلى الدكان في الجانب الآخر من القرية، ويشتروا له حلوى الطحينية، جروا مسرعين ولاذوا بالفرار، وكانوا يجرون ويضحكون، وشعر فُرَيْس بأنهم كادوا له، وكذبوا عليه، وسخروا منه.
ولشدة ما كان زعلانا ومقهورا منهم، راح يشتم أمهاتهم بكل صوته، ويقول لهم:
- "أيري بامهاتكم".
وكانوا هم يردون عليه ويشتمون أمه قُرُنْفلة، وهو يرد عليهم، لكن صوت ضحكاتهم كانت توجعه، وتنغرز فيه كالسكاكين.
ولاحظ الأطفال المحيطون به كم هو مقهور ومتألم وحزين.
وعند وصوله البيت، ذهب مباشرة إلى فراشه، وحين لاحظت أمه قُرُنْفلة أن ابنها ذهب إلى النوم من دون عشاء، انزعجت ودخلت تسأله ما الذي به؟!
ولماذا ينام قبل أن يتعشى؟! وهل هو مريض؟
قال لها إنه لا يشعر بالجوع، ونفى أن يكون مريضا، لكن أمه قُرُنْفلة استيقظت، منتصف الليل، من نومها على صوته، وهو يهذي، وحين اقتربت منه وراحت تتحسس جبهته، وجدت حرارته عالية، وسمعته يقول، وهو في حالة هذيان:
"أخور طاحونية يمَّا اشتري لي طاحونية أنا فدالك".
قالت له أمه قُرُنْفُلة، وهي تتألم لأجله:
"بكرة الصبح اشتري لك طاحونية من الدكان".
قال فُرَيْس مواصلا هذيانه: "بني أيري يمَّا كذبوا عليَّ.. أيري بامهاتهم".
وسألته أمه، وهي تضع خرقة مبتلة بالماء فوق جبهته، كيما تهدئ من حرارته:
"من هم اللي كذبوا علوك يا فُرَيْس؟!".
وطلبت منه أن يحكي لها ما الذي حدث؟!
وراح فُرَيْس يواصل هذيانه، ويحكي لأمه عن أولئك الذين تحدّوه، وراهنوه، وكذبوا عليه، وذكر لها أسماءهم، وراح يشتمهم، ويشتم أمهاتهم.
وفيما راحت أمه تواسيه، كانت الحمى تشتد، وفُرَيْس يواصل هذيانه بإيقاع متسارع، ويطلب من أمه أن تسرع وتسعفه بالطحينية، وأمه تقول له:
"الدكان ذحِيْن مقفّل -يا فُرَيْس- لكن الصبح بدري شابكر للدكان واشتري لك".
قال لها فُرَيْس: "أشتي يَمّا آكل آكل آكل طاحونية، لما اشبع"
قالت له أمه، وقد فاضت الدموع من عينيها:
"والله لا أبكر الصبح واشتري لك طاحونية تأكل لو ما تقول بس".
قال لها فُرَيْس: "ما شابكرش الصبح يمّا".
قالت له أمه، وقد اغتسل وجهها بدموعها:
"لِمَوْ -يا فُرَيْسِي- تقول مشتبكرش الصبح، لمو تهدُب لنفسك؟!".
قال لها فُرَيْس بصوت واهن: "شاموت يمّا".
وسأل أمه عن الجنة، وعما إذا كان فيها حلوى الطحينية:
"تقولي يمَّا في طاحونية بالجنة والا لا؟!!".
وعجزت أمه عن الجواب، ولم تدرِ ماذا تقول، ولا بماذا ترد على سؤاله.
وعندما شعر بأن أمه لم ترد، قال لها:
"يقدر ربي يخلق جبل طاحونية بالجنة".
قالت له أمه، وهي تكاد تنفجر بالبكاء:
"يقدر ربي -يا فُرَيْس- يقدر يخلق جبال كلها طاحونية".
وعندها ابتسم فُرَيْس، واكتسى وجهه بالفرح، وقال وهو يمسك يد أمه، ويقبلها:
"أحبك يمّا".
وظلت أمه قُرُنْفُلة بجانبه تحاول بخرقتها المبلولة بالماء وقف تقدّم الحمى؛ لكن الحمى راحت تتقدّم ساخرة من خرقتها، وتلتهم جسد ابنها.
وعند الفجر طلعت روحه، وغادرت جسده مثل طائر يغادر عشه.