مقالات
حكاية الطفل مفتاح (1-2)
ذات صباح مشمس، أفاق أهالي "قرية العكابر" على صخرةٍ عظيمةٍ وغريبةٍ تجثم قبالة بيت هزاع البتُول، وبدوا مستغربين ومندهشين من ضخامتها، وراحوا يتساءلون عمن جاء بها إلى قريتهم. فالعادة أن السيول في فصل الأمطار هي التي تحرك الصخور، وتتسبّب في سقوطها من أعلى إلى أسفل، أما هذه الصخرة فلا أحد يدري كيف وصلت، خصوصا وأن السماء ليلتها لم تمطر، ولم يكن الموسم موسم أمطار وسيول. ومما زاد في حيرة أهل القرية هو أن الصخرة لم يكن لها شبيه بين صخور الجبال المحيطة بقريتهم، فضلا عن أنها كانت من الضخامة ألى درجة أن أكبر وأعظم السيول التي تنزل من أعالي الجبال تعجز عن زحزحتها، حتى إن أهالي القرية -لشدة ضخامتها- أطلقوا عليها "دُقْم الجن"؛ لاعتقادهم بأن الجن هم من أحضروها إلى قريتهم.
أما لماذا ألقوا بها أمام بيت هزاع البتول؟ فقالوا إن السبب الذي جعل الجن يلقون بها أمام بيته هو أنه لا يؤمن بالجن، وينكر وجودهم، ولا يصدق كل من يحكي حكايات عنهم، وعن الأذى الذي يلحقونه بالإنس.
وكان ما ينفك يسخر، ويقول لأهل القرية إن الجن لا وجود لهم في الواقع، وإنهم موجودون فقط في رؤوسهم وفي خيالهم.
وعندما تحدَّوه أن يذهب إلى المبيت ليلة واحدة في دار المُخَرْدَع الكبير، الذي احتله الجن وسكنوا فيه، قبِل هزاع التحدي، وذهب. وبدلا من أن ينام ليلة فيه نام ثلاث ليالٍ كاملة.
وكان كلما قالوا له عن وجود جن في مكان ما ذهب إليه ليثبت لهم أن الجن موجودون في رؤوسهم، وليس في المكان الذي حدثوه عنه.
لكنهم بعد أن أصبحوا على صخرة عظيمة تجثم أمام بيته فرحوا، وقالوا له:
"ذلحين -يا هزاع- صدقت بوجود الجن أو لا؟!".
قال لهم: "كيف أصدِّق وأنا بعقلي".
قالوا له: "لأنك ما تصدِّق بوجود الجن، جابوا لك الدُّقْم لا جنب بيتك، ذلحين سد أنت وهم".
وتحدَّوه أن يزحزح صخرة الجن من أمام بيته، ثم إن تلك الصخرة العظيمة بدت أشبه ما يكون بكابوسٍ حجري يقظُّ مضجعه، ويقلق راحته، وكان كلما أبصرها يتضايق من وجودها، ويقول مهدِّدا ومتوعِّدا:
"هذا الدُّقم لا بُد له من يوم".
وفي عصر ذات يوم وهو مخزِّن في بيته، وقد أوصله القات إلى ذروة نشوته، راح من نافذة غرفة المقيل يحملق في تلك الصخرة العظيمة الجاثمة قبالة بيته، وشعَر كما لو أنها تتحدّاه أن يقترب منها، ويومها -وتحت تأثير نشوة القات- تملكته رغبة شديدة في أن يحطمها، وساعتها راح ينادي ابنه مفتاح بكل صوته:
- "مفتاح.. وا مفتاااح .. مفتاااح .. واااامفتااااح".
لكن الولد مفتاح، الذي كان يلعب مع أترابه في ساحة القرية راح يتجاهلُ نداءات أبيه لخشيته من أن يكلّفه بمهمةٍ تجعلهُ يتوقف عن اللعب ويغادر الساحة.
ولشدة غضب هزاع البتول من ابنه مفتاح، الذي يتعمد تجاهل نداءاته، راح يهدده أنه سوف يطلِّق أمه زبيبة:
-" مفتاااااح.. الله لا فتح علوك .. مفتاااااااااااح .. يا بن ..... مفتااااااااااح يا بن زبيبة، والله لو ما تجاوبنا لا اطلق أمك".
وخوفا من أن يطلق أمه زبيبة جاوبه مفتاح، وقال له:
* مو تشا يا با؟
قال له أبوه:
- "اشتوك تروح لا عند ناجي الحداد، وتقول له:
- يقول لك أبي .. هات له المطرقة حقك".
وسأله ابنه مفتاح عما ينوي فعله بالمطرقة!!
- "لمو يا با تشا المطرقة؟!".
ورد عليه أبوه بأنه ينوي أن يحطِّم بها صخرة الجن، التي تجثم قبالة بيته:
- "ناوي أُكسّر دُقم الجن".
وبمجرد أن قال له أبوه إنه ينوي تحطيم صخرة الجن الجاثمة أمام بيته حتى داخله شعور بالفزع، وراح يترجَّاه، ويقول له إن الصخرة صخرة الجن، ولو هو أقدم على تحطيمها سوف يزعل الجن منه ويغضبون:
-"لا يابا ادأنا فدا لك، الدُّقم دُقم الجن، خلوه مكانه، مو علوك منُّه، لو قمت تكسِّرُه الجن شزعلوا منَّك".
وصاح هزاع البتول قائلًا ومتحدياً:
- "دُقم الجن والا دُقم العفاريت، والله لا أكسِّره حلفت يمين!!".
وراح الطفل مفتاح يراجع أباه، ويحاول أن يثنيه، ويجعله يتراجع عن فكرة تحطيم صخرة الجن، لكن أباه كان يزداد إصرارا على تحطيمها، ويطلب منه سرعة الذهاب إلى المِحْدَادَة (قرية الحدادين) ليأتيه بمطرقة ناجي الحداد، وكان قد شاع أن ناجي الحداد لديه مطرقة ورثها أبوه عن جده، الذي ورثها عن جد الجد، وقيل عنها إنها قادرة على تحطيم وتهشيم أعظم الصخور ضخامة، وأكثرها متانة وصلابة.
وعندما رأى الولد مفتاح أن أباه أكثر إصرارا وعنادا، قال له إن الشمس على وشك أن تغرب، وطلب منه أن يؤجل المهمة إلى صباح اليوم التالي:
- "يا با بُكره الصبح شاروح أجيب المطرقة، ولا علوك".
لكن أباه لم يكن من النوع الذي يؤجل عمل اليوم إلى الغد، ثم إنه كان من عادته حين ينوي أن يفعل شيئا يفعله بعد القات؛ ذلك لأن القات كان ينعشه ويجعله أكثر نشاطا وأكثر حماسا للعمل، وأكثر إقداماً. وحين أصر أبوه على ذهابه، راح الولد مفتاح يقول لأبيه إن الوقت يقترب من المغرب، وإن ذهابه في ذلك الوقت إلى المحدادة "يعني أنه سوف يمر بأخطر الأماكن وأكثرها رُعبا وهو هيجة المَدّارَين"، ولشدة خوفه قال لأبيه:
- "يا با لو رحتو للمِحْدَادَة مو قدّرنا أجزع هيجَة المدّارين".
قال له أبوه: أيش اللي يفجِّعك يا مفتاح من الجزعة بهيجة المدارين؟!".
وتذكر الطفل مفتاح ما قالته له جدته جُلُوْبْ، وما تقوله نساء القرية عن "هيجة المَدَّارِين" وعن الجنيَّات المغنيات اللاتي يجذبن البشر بأغانيهن، وبجمال أصواتهن إلى الهاوية، ولحظتها سرت في جسده قشعريرة رعب، وراح يتوسل لأبيه أن يمهله إلى الصباح، لكن أباه راح يسخر من جدته جُلُوْب، ومن عجائز ونساء القرية، ومن كل ما يروينه من حكايات عن الجنيات المغنيات، وقال له:
- "يا مفتاح لا تصدق جدتك جُلُوْب.. جدتك مخرِّف، وكلهن عجائز ونسوان القرية مخرفات، صدِّقنا أنا أبوك جزعتُ هيجة المَدّارين بالليل أكثر من مئة مرة".
قال له مفتاح: "أنت كبير يا با، وكلهم الجن والجنيِّات يفتجعوا منّك".
ولشدة غضبه من تلكؤ مفتاح وتردده وخوفه من الذهاب راح يهدده، ويقول له:
"قل لي -يا مفتاح- يا بن ….، شتروح لا عند ناجي الحداد تجيب المطرقة، والا أطلق أمك زبيبة؟!!".
ولخشيته من أن يطلِّق أمه، وافق مفتاح على الذهاب، رغم خوفه من جنيِّات هيجة المَدّارِين.
ولحظتها تجمع أترابه حوله، وراحوا يخوِّفونه من جنيِّات الهيجة المغنيات، وينصحونه بعدم الذهاب، ويقولون له:
- "يا مفتاح، مغرب مو قدَّرك تجزع هيجة المدّارِين؟!!".
قال لهم وهو حزين وخائف ومرعوب إنه لو لم يذهب، فإن أباه سوف يطلق أمه:
-"لو ما رحتوش، أبي شُطلِّق أمي".
قالوا له: "ما يقدرش يطلقها هو بس يتكلم كلام".
قال لهم مفتاح بصوت متهدِّج: "مو درّاكم بُه!! أنتم ما تعرفوش أبي.. أبي أكبر ….".
كان أهل القرية كلما جاؤوا على ذكر "هيجة المَدّارين" تجتاحهم قشعريرة رعب.
كان لديهم اعتقاد بأنها قرية الجن، وبأن جنيَّات الهيجة "الهاوية" يعشقن البشر، ومن عشقَهنّ لهم وشغفَهُنّ بهم يغرينهم ويجذبنهم بجمال أصواتهن الجميلة، لكن النساء والعجائز كن أكثر إيمانا من الرجال، وبحسب كلامهن فإن من يسمعهن وهن يغنين ينسحر بجمال أصواتهن ويفتتن، ويرهف أذنيه ليسمع المزيد، ثم لا يلبث أن يقتفي أثر أصواتهن، ويمضي خلفهن إلى الهاوية.
ولخشيتهِنّ على أولادهن وأحفادهن، كانت الأمهات والجدات يحذرنهم من المرور في هيجة المدَّارِين من بعد غروب الشمس، ويقلن لهم:
-"المغرب عند الجن صبح، والليل عندهم نهار".
وكن ينصحنهم -إن هم تأخروا في العودة لأي سبب من الأسباب- أن يحشوا آذانهم بالعطب حتى لا يسمعوا أصوات الجنيِّات المغنيات، وعندما عرفت جُلُوب جدة الطفل مفتاح أن أباه طلب منه أن يذهب إلى بيت ناجي الحَدّاد ليحضر مطرقته الشهيرة، خافت عليه من جنيِّات الهيجة المغنيات، ولشدة خوفها من أن يسحرنه بجمال أصواتهن، وبعذوبة أغانيهن راحت تناديه من سقف بيتها، وتطلب منه أن يمر عليها لتحشو أذنيه بالعُطب.
لكن الطفل مفتاح لشدة خوفه من أن يطلِّق أبوه أمه زبيبة انطلق يعدو بأقصى ما يقدر عليه، وحين رأته جدته جُلوب يمضي مبتعدا من دون فانوس، ومن دون أن يحشو أذنيه بالعُطب أجهشت بالبكاء.
* دار المُخَرْدَع الكبير دار بناها المُخَرْدِع الكبير بعد عودته من الغربة، وكانت من أعظم الدُّور في القرية، لكنه وقد انتهى من بنائها احتلها الجِن، وسكنوها، وحالوا بينه وبين الانتقال إليها.