مقالات
حلم في كابوس
لم تستطع المعارضة السياسية في هذا البلد - ومنذ السبعينات - أن تقود الجماهير يوماً، ولا أن تُقيّد الجماهير يوماً.
والسبب الرئيس في هذا المشهد يكمن في أن هذه المعارضة ابتعدت كثيراً عن الشارع الشعبي -كحال الحكم تماماً- فصار كل منهما في جزيرة نائية جداً عن الآخر.
وبرغم كل الأزمات، التي تحدق بالشعب، والتي بلغت في العقود القليلة الماضية وحتى هذه اللحظة حداً مرعباً للغاية، فقد انعدم مشهد الانتفاضات الشعبية (ولن أقول الثورات!) في الشارع الوطني، عدا الانتفاضة ضد حكم الرئيس صالح، التي تجلت ناقصة وتولت كسيحة!
هذا الشعب لم يكن يوماً -ولن يكون أبداً- في شُبهة من خنوع أو خضوع أو جُبن أو انكسار.
وشواهد هذا الاعتقاد في التاريخ البعيد والقريب كثيرة للغاية. لكنه اليوم مثل طاهش في قفص. وقد عدِم الأداة الكفيلة بتحريره من هذا القفص.
فقد انعدمت الأداة السياسية القيادية أو القدوة الوطنية الحقة، أكانت كيانات منظمة أو شخصيات كاريزمية.
أما تلك الحركات -أو الحِراكات- التي ظهرت هنا وهناك لبعض الوقت، فقد ابتلعها الإسفلت بسبب ضياع البوصلة، أو اقتلعها أصحاب المصالح الذاتية من داخلها.
فالانتهازية السياسية والنفعية المحضة ظلت مقبرة الهبّات الشعبية في جزء كبير من مسار الحركة السياسية والثورية اليمنية.
راحت المعارضة تلهث خلف الشارع في مشهد، وفي مشهد آخر تحاول ركوب موجة الفعل الثوري المتميز الذي صنعه وزاوله الشارع الشعبي بقيادة عفوية نقية من لدن شباب متحمس ونزيه، وكانت النتيجة تحطم كريستال النقاء الثوري على صخرة المعارضة الانتهازية.
وفي هذا البروفايل بالذات كانت "المعارضة" -في الأصل- جزءاً حميماً من نظام الحكم الفاسد والغاشم، قررت في لحظة شيطانية تغيير لبوسها ليتواءم مع ديكور اللحظة الثورية!
ذات يوم ليس ببعيد، أنبلجت ثورة الشباب، فانفلجت بمداهمة شيوخ الجهل والفساد وعسكر التعذيب والتهريب..
واليوم، تخلَّقت ما تسمى بحركة الأقيال، فداهمها الخراتيت والأفيال..
وغداً، وبعد غدٍ، ستتبرعم الياسمين والجوري، ويتغنى البلبل والدوري، فإذا بها تُسحق بين قبضات الملكي وتحت أقدام الجمهوري... ويا دائرة دوري!
لقد عانى هذا الشعب طويلاً من كونه وقوداً للصراع بشقّيه: الاجتماعي والسياسي.
راح يحترق كثيراً -وما يزال- حتى بات رماداً، فيما راحت المعارضة الانتهازية تنعم بالضياء الناجم عن ذلك الاحتراق والسماد الناتج عن ذاك الرماد!
ولست أجد فظاظة ولا غضاضة في أن يرفض التيار الأعظم من الجمهور إلصاق هويته بالمعارضة القائمة، بل نجده يضع بيض السلطة والمعارضة في سلة واحدة.
وهو محق في ذلك، لأن بيض المعارضة -في أحيان كثيرة- ليس أقل فساداً من بيض السلطة.
وهو، في الوقت نفسه، لم يعد يجد أي نوع من القداسة أو حتى الكرامة تصبغ أي سياسي أو نخبوي في السلطة والمعارضة معاً.
غداً، سيتعب المتحاربون من حربهم، أو يعدمون وسائل استمرار هذه الحرب، حينها سيقعدون معاً كتفاً إلى كتف تحت ظلال نخلة، ويشرعون في اقتسام كعكة الوطن ولحمة المواطن، بعد أن باعوا شرف الوطن، ورهنوا كرامة المواطن لدى حفنة من السماسرة والنخّاسين!
...
ذهبتُ لأخلد إلى النوم. وفي هدأة المنام وهنأة الحلم، وجدتني عاجزاً عن الكتابة في شأن سياسي.
واكتشفت -لوهلةٍ فاصلة بين وردة الذات وجمرة الواقع- أن الكتابة في السياسة ضربٌ من الخَبَل المعجون بالتعاسة، فيما غدا القلم قشَّة كُناسة.
جُلْتُ ببصري وبصيرتي حواليَّ، فإذا ببوصلة الوعي والوجدان يمَّمت عقربها شطر مشهد بانورامي باعث على الرعب البالغ حدَّ الاحتقان المطلق، فالانفجار المغلق.
كان أرنيستو تشي جيفارا يقتعد رمال الريفيرا -في حالة نشوة عارمة- مع جان بيديل بوكاسا وفولجنسيو زالديفار باتيستا وموبوتو سيسي سيكو، يدخنون الـ"ماريجوانا" ويحتسون الـ"هافانا كلوب"، ويتبادلون النكات البذيئة، والنساء الرخيصات، وأشياء اخرى يصعب نشرها من دون الوقوع في شَرَك المحذور وطائلة المحظور.
غير أن أكثر ما أحزنني في هذا المشهد أن جيفارا كان يخلع قبعته المرصَّعة بالنجمة الملتهبة، معتمراً بدلاً عنها قبعة الكاوبوي، في الوقت الذي راح باتيستا يرتدي بذلته العسكرية ذات النياشين الذهبية، متمنطقاً مسدسه الفضي الضخم ومتأبطاً عصا الماريشالية.
وقد بدا لي جليَّاً أن هذا المشهد لم يكن في سهوب أمريكا اللاتينية أو أدغال أفريقيا الاستوائية. للأسف الشديد، كان يمانياً في الصميم.. فقد كان المناضل الثوري التقدمي العريق يبعث برسالة غرامية إلى أحد السلاطين، ويُوجّه دعوة استضافة إلى أحد الأمراء، فيما يُهدي باقة ورد إلى زعيم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
يا إلهي... لم يكن ذاك حلماً على الإطلاق. كان كابوساً بالمطلق!