مقالات
حينما تناقض موقفا القاضي والأستاذ بسبب السعودية!!
"إن المعالم لدينا واضحة، فأي طريق ينتهي بنا إلى إلغاء النظام الجمهوري لن نسلكه مهما كانت العقبات والأشواك في الطريق الآخر، وأي سبيل يفضي إلى عودة بيت حميد الدين هو الآخر لن نضع قدماً فيه"
القاضي عبد الرحمن الإرياني - "المذكرات" الجزء الثالث ص 74.
_____________________
في الشهرين التاليين اللذين أعقبا انقلاب الخامس من نوفمبر 1967، بدأت تظهر تباينات مواقف القاضي الإرياني مع الأستاذ النعمان -عضو المجلس الجمهوري المستقيل- بسبب اتخاذ الأخير موقفاً داعماً للسعودية، أبانته رسائله وتصريحاته المتعددة، بعد مواقف اللجنة الثلاثية المنحازة للسعودية، ومن تصريحات الأستاذ المثيرة التي يوردها القاضي قوله:
"إن السعودية لا تتدخل في حرب اليمن، بدليل أنه لم يحدث أن عُثر على جندي سعودي أسيراً أو قتيلاً في اليمن، وإنما التدخل آتِ من قِبَل الشيوعيين الروس، ونفى وجود مرتزقة أجانب مع الملكيين، وقال إن هذه حكاية اخترعتها الإذاعة خلال خمس سنوات" ص60.
دفعت هذه التصريحات القيادات الشابة في الجيش والمقاومة الشعبية إلى فك الحصار عن صنعاء للضغط على مجلس الوزراء لإصدار قرار بسحب جوازه الدبلوماسي، وجواز نجله محمد في ديسمبر 1967م، وحاول القاضي الإرياني كثيراً تبرير أفعال الأستاذ النعمان، وتصريحاته، وأرجعها إلى معاناته من فترة الاعتقال الطويلة التي قضاها في السجن الحربي في القاهرة مع مجموعة من أعضاء الحكومة اليمنية (من سبتمبر 1966 إلى أكتوبر 1967). ويقول لنجله محمد الذي زار القاضي في تعز:
"إني قد التمست للأستاذ أحمد الأعذار في نفسي، وقلتها للإخوان، وأحسنت الاحتمال لما حدث بأنه من رواسب السجن الحربي والزنزانة المظلمة، وكأنه يشعر أنه ينتقم من السجان، في الوقت الذي أظنه يعرف أن السجان قد غسل يده من القضية بالماء والثلج والصابون والبَرَد، ولم تعد تهمه من قريب أو بعيد، بل ربما أنه يتمنى لها الفشل انتقاماً من 3 أكتوبر، ولأجل يبرهن أيضاً على أنه كان حاميها، فلما تخلى عنها انتهت" ص52.
وأول تلك الخلافات المعلنة كانت في الرسالة، التي بعث بها الأستاذ من بيروت مصحوبة باستقالته من عضوية المجلس الجمهوري – عين عضواً فيه يوم انقلاب 5 نوفمبر ولم يكن موجودا وقتها في صنعاء، متهماً القاضي والممسكين بسلطة نوفمبر بجر البلاد إلى حرب أهليه بعدم تعاونهم مع اللجنة الثلاثية التي كان يراها الإرياني غير حيادية وغير نزيهة، تعمل لصالح السعودية بقوله: "انحازت {اللجنة} إلى الجانب الآخر بشكل واضح".
ومما جاء في رسالة الأستاذ النعمان المؤرخة بـ19 نوفمبر 1967م - بعد أسبوعين من الانقلاب:
"تأكد لي الإصرار على رفض اللجنة الثلاثية ومؤتمر المصالحة، كما تبين لي أن المجلس الجمهوري لا يقوى على إعلان رأيه فيما أجمعت الأمة العربية عليه في مؤتمر الخرطوم، وسبق لنا أن أيدنا جميعاً، ولما كنت غير مستعد لأن أكون واجهة لوضع يدفع البلاد لحرب أهلية جديدة لا يعلم أحد مداها، فإني اعتبر نفسي حراً منذ اليوم من عضوية المجلس الجمهوري" ص20؛ غير أن هذه الخلافات ستذوب لاحقاً، حينما دفعت السعودية بالأستاذ النعمان إلى واجهة السلطة بترؤسه إحدى حكومات ما بعد المصالحة.
(**)
بقي الإعلام السعودي في صحافة بيروت النشطة، وأدوات السعودية السياسية، يبرران لها دعم الملكيين وتدخلها في الشأن اليمني بسبب التغلغل السوفييتي في اليمن، وهي بفعلها هذا - حسب هذا التبرير- إنما تحارب المد الشيوعي في المنطقة، ووصوله إلى خاصرتها الجنوبية، وهو ما أنكره القاضي الإرياني من باب نفي التهمة عن مجلسه بالتعاون مع السوفييت، حتى أنه اتهمهم كأصدقاء ببث إشاعة سقوط مطار الرحبة عبر وكالة تاس السوفيتية كذباً، لتبرير خروج سفارة بلادها وموظفيها أو خبرائها من صنعاء إلى الحديدة وتعز- ص 27.
في مكان آخر من الكتاب، وتحديداً في رسالة بعثها الرئيس القاضي إلى الملوك والرؤساء، يقول بالحرف الواحد:
"وفي الوقت الذي سحب الروس فيه خبراءهم من المشاريع العمرانية، وتركوا أربعة آلاف عامل بدون عمل، وسحبوا الأطباء من المستشفيات، وتركوا المرضى وجرحى الحرب تحت رحمة الأقدار، وسحبوا حتى موظفي سفارتهم، في هذا الوقت اخذت السعودية تتذرع لتدخلها في شؤون بلادنا بوجود تدخل روسي، في حين أنه لا يوجد في اليمن أي تدخل خارجي غير التدخل السعودي، فلقد تدخلت السعودية بكل ذهبها ومرتزقتها وأسلحتها الخفيفة والثقيلة وخيلائها وكبريائها تحت سمع الشعوب العربية وحكوماتها وبصرها" ص 68.
تأخر السوفييت في مد يد المساعدة -كما يقول- لم يكن سببه ارتباك خطوط سير الملاحة، وبعدها بسبب إغلاق قناة السويس بعد حرب الأيام الست، كما روّج البعض، وإنما بسبب الضغوط التي مارستها بعض الدول "وعلى رأسها مصر، برجاء تأخير المساعدة كوسيلة من وسائل الضغط علينا لقبول الحل الذي تريده اللجنة الثلاثية ، والذي معناه الغاء النظام الجمهوري، وهذا ما لا يمكن قبوله مهما تنوّعت الضغوط" ص38.
مصر كانت في تلك الفترة في مرحلة لا توازن، وترغب في إعادة ترتيب بيتها الداخلي بعد زلزال النكسة، ولا تريد الذهاب بعيداً في خلافاتها مع السعودية، التي صارت تقف في وضع المنتصر الفعلي ليس في حرب اليمن، وإنما في المنطقة برمّتها، وإن قوة تأثيرها في المحيط غدت أكبر من مصر بحكم قوة تحالفها الأمريكي الغربي، وبروزها كقوة اقتصادية ريعية جديدة بفعل الاستكشافات النفطية، إلى جانب تحوّلها إلى مركز روحي للعالم الاسلامي.
لهذا حين وجّهت الحكومة اليمنية برسائل قوية تريد بها من الحكومة المصرية موقفاً واضحاً من الادعاءات السعودية بوجود دعم سوفييتي للحكومة من أجل أن تتنصل من مقررات مؤتمر الخرطوم، اكتفت الحكومة المصرية بالرد بواسطة صحيفة الأهرام في واحدة من افتتاحياتها، وليس بإصدار بيان عن طريق وزارة الخارجية على الأقل، كما أرادت الحكومة اليمنية. ويورد الإرياني مقتطفات من افتتاحية الجريدة ليوم الجمعة 5 يناير 1968م:
"إن حكومة المملكة العربية السعودية أصدرت بياناً قبل أيام اتهمت فيه الاتحاد السوفييتي بما سمته تدخلاً سافراً في اليمن، وأضافت إلى ذلك بأنها ستعيد النظر في اتفاقية الخرطوم إذا لم يتوقف هذا التدخل، والأهرام في هذه الكلمة السريعة لا تستهدف الدفاع عن الاتحاد السوفييتي، فإن الاتحاد السوفييتي يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولكن هناك نقاطاً تستحق أن تسجل وأن تقال إنصافاً للعرب أنفسهم، وقبل غيرهم من الأطراف. إن الاتحاد السوفييتي بمواقفه المتعددة أثبت أنه صديق لقضايا النضال العربي، ولا يستطيع منصف إلاًّ أن يسجل هذا الموقف الايجابي، في حين جاءت المواقف السلبية، بل والعدائية من غيره" ص 59.
لم يقف الأمر عند هذا الحد بل يوجّه اتهاماً صريحاً للحكومة المصرية بمداهنة السعودية، حينما يقول: لم يأتنا من مصر مساعدة، وكان للتصريح المصري على لسان ناطقها الرسمي محمد حسن الزيات الذي ينفي التدخل السعودي بما ينقض اتفاقية الخرطوم اسوأ الأثر في النفوس، ولاسيما أنهم يعلمون حق العلم أنها من أول يوم دفعت بالمساعدات العسكرية بأضعاف أضعاف ما كانت تدفعه، والقوات المصرية في اليمن، وأنهم نتيجة لذلك كانوا في يأس مطبق من صمود النظام الجمهوري" ص 91.
(**)
علاقة القاضي الإرياني خلال فترة حصار صنعاء وصولاً إلى أحداث أغسطس 68 بالقوى الثورية الشابة التي دافعت عن المدينة وتنتمي لعموم اليمن - شماله وجنوبه- كانت شديدة الجذب والتوتر، فمقابل رؤية هذه القوى لشخصه ومنظومة حكمه النوفمبرية بالرجعية والاقطاعية، كان بالمقابل يراها قوى نزقة تتحكم بها مراكز حزبية مغالية، لهذا استقوى بحليفه القبلي في حسم صراعه معها في أحداث 23 و24 أغسطس، التي أخذت في جانبا كبيرا منها بعد طائفي فج، لا ينكره القاضي نفسه.
في تدوينه ليوميات الحصار، لم يرد ذكر اسم عبد الرقيب عبد الوهاب على الإطلاق لا باسمه ولا بصفته - رئيس هيئة الأركان-، وكان الحاضر الأبرز في التدوين الفريق حسن العمري، لكنه منذ أزمة سفينة الأسلحة في مارس 68 وصولاً إلى أحداث اغسطس يتردد اسمه من الزاوية الملتبسة بوصفه أحد رموز الانشقاق في المؤسسة العسكرية، ويرد في ص 117 قول القاضي:
"وقد استدعيت عبد الرقيب عبد الوهاب، وكان المُسيِّر للطرف المعارض، وشرحت له الموقف، وأننا نعتبر من الخيانة العظمى للوطن أن يقوم تصادم بين الجمهوريين وتصدع في صفوفهم، والعدو منهم على مرمى البصر، ولكنه كان -على ما يبدو- قد ملأه الغرور والدافع الحزبي، وكان واثقاً من قدرته على إحراز النصر والاستيلاء على الحكم".
نُفي عبد الرقيب إلى الجزائر مع مجموعة من الضباط بعد أحداث أغسطس، قبل أن يعود إلى عدن منفرداً، بعد أن عاد المنفيين، وتسلل إلى صنعاء في أواخر العام ذاته، لتتم تصفيته في أواخر يناير من العام التالي 1969م، والتمثيل بجثته في شوارع صنعاء، بحادثة كثرت فيها الروايات، لكنها كانت ضمن مخطط إفراغ النظام الجمهوري من مفاعيله الجديدة، تمهيداً لإفساح الطريق للمصالحة مع الملكيين، وتقاسم السلطة معهم برعاية سعودية؛ السلطة بتركيبتها التي بقيت تحكم بصلابة لخمس وأربعين عاماً، قبل أن تدخل اليمن بدوامة الحرب لإعادة ترسيم اليمن وتفكيكه مرة أخرى بأدوات سعودية جديدة.
(**)
ما يقوله هذا الجزء من المذكرات الشيء الكثير عن تلك الفترة الملتهبة، وتُروى من وجهة نظر صاحبها، والقابلة أيضاً لإخضاعها لقراءات أخرى تقوم على الاختلاف والنقد، وهو أمر متروك لمعاينة أخرى لي ولغيري ممن سيجرهم هذا الكتاب إلى عوالمه العجيبة.