مقالات
حين تنتج الأنظمة أذرعها الأصولية!!
قبل قرابة أربعة أعوام، وتحديداً في مايو 2018، كتبت عن ثنائية "حبّ المستبِّد وخشيته"، وأسقطتها على الحالة العربية وقتها، من زاوية أن الكيانات الاستبدادية (أنظمة وجماعات حكم) تدرك حجم الهوَّة بينها وبين شعوبها، ولم تتقوَ العلاقة بينهما بالمحبّة، لأنها لا تملك شيئاً من المحفزات والمُرغِّبات إلى ذلك. فاستحواذها على السلطة، في كل مرّة، تم بالقهر (الانقلابات / الانتخابات الزائفة / شرعيات الثورات الدموية)، وإدارتها لبلدانها تمّت، ولم تزل، بالحيلة؛ لهذا لم يكن التعفّف عن السلطة من المدركات النفسية لدى عصائب الحكم فيها.
الشرعية الثورية، التي حكمت الأنظمة العسكرية، تحت لافتاتها قرابة سبعة عقود، أفضت في نهاية المطاف إلى تكريس جمهوريات وراثية، زاوجت سفاحاً بين المال والسياسة، ولم تجد، هذه الأنظمة، من الوسائل في إدامة تسلطها أنجع من أدوات القهر، التي بدأت باستخدام القوّة والغلبة، وانتهت إلى إنتاج "سلطة أصولية" متعددة الأذرع، تتجمّع في أيدي أشخاص قليلين "غير منتخبين" يستخدمون كل إمكانيات الدولة ومؤسساتها لتملّك كل شيء.
أما طرائقها المتشابهة في ذلك كان بتقوية الأجهزة الأمنية، وجعلها الجزء الفاعل في بنية الحكم.
لم نصل إلى مطلع الألفية بعد العشرين، إلاَّ وقد صارت هذه الأنظمة "دُمَلاً" مشبَّعاً بالقيح، كان انفجاره متوقعاً، لكنّها أرادته أن يكون على رؤوس الجميع، ولم يستطع إزالة آثاره حتى الآن، بل نُقلت عدواه إلى أكثر من بقعة، لتصير دمامل ملوَّنة، تصنع تواريخها الخاصة، في الحروب والفوضى والحرائق المشتعلة في كل مكان.
كان قبل ذلك أن نبتت في جسوم هذه الأنظمة، في عزِّ تسلطها في سنوات السبعينات والثمانينات، مكوّنات أصولية دينية برغبة وتسهيل منها، لأسباب تتصل بطرائق التسيير للحكم وخدمة له.
فالنظام المصري، في عهد الرئيس السادات، عمل على إطلاق قادة الجماعات الجهادية من السجون، وغضَّ الطرف عن عملية إعادة بناء تنظيماتهم، بهدف إضعاف التيار المدني - نقابات وتنظيمات وجماعات طلابية- الذي بدا شديد التماسك والتأثير في مناهضته لحكم السادات، الذي ورثَ الحقبة الناصرية.
ولم يصل عقد السبعينات إلى محطته الأخيرة، إلاًّ وكان لهذه الجماعات حلمها المكتمل، الذي تقوّى مع خطاب الثورة الخمينية في إيران، ابتداءً من فبراير 1979، الذي رأت فيه عديد من مكوّناتها الغطاء الأيديولوجي الفاعل والضامن لتحركاتها المعلنة، التي تعززت أكثر مع التجييش للجهاد في افغانستان مطلع العام 1980م، بعد اجتياحها سوفيتياً، الذي قدّمت له دوائر الاستخبارات في الغرب (وأكثرها الـCIA) كل أشكال الدعم "في الإشراف على تنقل الأفراد وتدريبهم"، وتولّت أنظمة الخليج عملية التمويل والتبرير.
التجييش الجهادي تم بين حدثين مفصليين في تاريخ المنطقة: أولهما كان في الاختبار الأصعب لهذه التيارات داخل حاضنتها الأم، وتمثّل في حركة "جهيمان العتيبي" في الحرم المكي في نوفمبر 1979، وثانيهما الذي عُرف بحادث "المنصة" وراح ضحيته "الرئيس المؤمن"، في 6 أكتوبر 1981، ببنادق أفراد من الجماعات التي أطلقَ قادتها من السجون.
هذان الحادثان نبّها الأنظمة إلى إمكانية جعل المشكلة الأفغانية وجغرافيتها البعيدة مساحة تتنفس فيها هذه الجماعات بعيداً عن بلدانها، وهو ما حدث فعلا، قبل أن يرتد، هذا التنفيس، وبالاً على الجميع!!
استثمار الأنظمة الباكر في الجماعات الأصولية لم يقف عند النظام المصري، والحاضنة الأصل "السعودية"، بل امتد إلى نظام صالح، الذي خطى الخطوة الأكبر في جعلها جزءاً من بنية نظامه، وليس آخرهم نظام بشار الأسد الذي عمل، بعد سقوط عراق صدام حسين ربيع 2003، على جعل الحدود السورية مع العراق ممراً آمناً للمجاهدين إلى الأراضي العراقية لإنتاج إماراتهم في غربها، برغبة إيرانية صرفة، لتقويض الوجود الأمريكي هناك، وتزامن وقتها مع ما فعله نظام القذافي بإطلاقه المئات من أعضاء الجماعات المتشددة من السجون، بذريعة المصالحة والاستتابة، غير أن هذا الاستثمار تحوَّل إلى عبء على الأنظمة وشعوبها، بتحوصله كمشكلة أمنية واجتماعية، صعُب التخلّص منها حتى اليوم، وهو أمر سيصعب أكثر في المستقبل بفعل ازدياد الاحتقانات والحروب وإدامة الفوضي في البلدان الإسلامية ومحيطها القريب.
الفراغ، الذي تركته السلطات التي فككها الربيع، ملأته أولاً هذه الجماعات ومستنسخاتها، وبرؤية الأنظمة ذاتها- التي خرجت أصلاً من عباءاتها وقبعاتها الملونة - وعملت على فرض سلوكها الترويعي على سكان الجغرافيات، التي أخضعتها في خضم الفوضى والفراغ.
مثلاً، الجماعات الطائفية الأبكر في العراق "شيعية وسنية"، وبعد 2003 اقتسمت البلاد وقسّمتها ، لتمارس أبشع الانتهاكات في حق مخالفيها الطائفيين، وحق الجماعات العرقية والإثنية والأقليات، ووصل ذروته مع سقوط مدن رئيسة ذات عُمق سُني كالموصل بيد تنظيم الدولة في العام 2014، في تجلٍ مكتمل لفساد السلطة الطائفية في العراق، واحتاج الأمر تالياً إلى قيام تحالف دولي لمحاربة التنظيم وتقليل خطره، والحد من انشطاراته، في ثلاث دول تجمعها البادية الكبرى (غرب العراق وشرق سوريا وشمال الأردن)، وما نتج عن ذلك من بروز مكوّنات انتقامية بديلة، هي جماعات "الحشد الشعبي"، التي جرَفت المدن السُّنية برغبة إيرانية، ومهدَّت لها هذه العملية تعبيد الطريق الطائفي من طهران إلى اللاذقية بدون حواجز أو مصدَّات قومية وعِرقية، بما فيها المصدَّات الكردية، التي اُضعفت بعد مغامرة الاستفتاء الكردي شمال العراق صيف 2017، وهزيمة كركوك، وتمكين تركيا في الشمال السوري، مقابل "ابتلاع وهضم" عملية التجريف الطائفي في الغوطة وجنوب سوريا، التي أتمّها نظام الأسد في العام 2020م.
"حزب الله"، في مغامرته السورية، وانخراطه المعلن في حرب اليمن إلى جانب الجماعة الحوثية، صار أكثر قوّة في لبنان، ومتحكما بقرارها السيادي، وصار يمتلك الآن مع حلفائه أكبر كتلة نيابية منذ انتخابات مايو 2018، ومتوقّع أن يحتفظ بها في انتخابات مايو 2022م في ظل ضعف منافسيه داخل الطائفة الشيعية، أو حتى الطائفة السُّنية المنقسمة.
في اليمن، لم يتوارَ الانقلاب الحوثي، بل صار جزءاً فاعلاً من معادلة الحرب، ومقترحات التسويات فيها.
هذان الكيانان، بالإضافة إلى حشد العراق الشعبي، يمثلون اليوم المعادل الآخر للتطرّف السني الذي بقي نشطاً في سنوات ما بعد الربيع في "ليبيا وسيناء وسوريا وجرود لبنان واليمن"، قبل أن يهمد قليلاً خلال العامين المنقضيين.
الكيانات الشيعية المسلحة بنزوعها المتطرف مُكِّنت، وبرغبة دولية، من الأرض التي تقف عليها، لتحقيق توازن سياسي وديني، حتى وهي تشكّل أقلّيات في محيطها الجغرافي، تمهيداً لإعادة ترتيب الجغرافيات السياسية في المنطقة على أساس طائفي، تُصاغ مقدّماته بكثير من التروّي.