مقالات

خطورة التنظير الجيني للعنصرية الطبقية في جامعة تعز

04/09/2025, 12:04:46

تمثل قضية المهمشين، أو ما يُعرف محلياً بفئة "الأخدام"، اختباراً حقيقياً لضمير المجتمع اليمني ومدى جدية خطاب المواطنة المتساوية الذي ترفعه الدولة. 

فبينما تتراكم المآسي الإنسانية لهذه الفئة تحت وطأة التمييز والعنصرية الممنهجة، يبرز خطاب مضاد لا يكتفي بتبرير الوضع القائم بل يسعى إلى تبريره عبر أدواتٍ تبدو، للوهلة الأولى، علمية وأكاديمية.

ولا يغيب عن إدراكنا أن الخبرة التاريخية والسياسية في اليمن وفي الكثير من دول العالم الثالث راكمت تخوفات مشروعة من استغلال قضايا الأقليات والمهمّشين لأجندات تتصادم مع مصالح الدول الوطنية وتؤثر سلبًا على التماسك الاجتماعي.

وفي اليمن، تضاعفت هذه التخوّفات بعد أن تعاملت بعض القوى الدولية مع الحركة الحوثية قبل الحرب كأقلية، ممّا أدى إلى تجاهل خطاب العنف العنصري والتمرّد المسلح الذي توسّع من مدينة إلى أخرى حتى سيطر على العاصمة، وتسبب بأكبر كارثة إنسانية معاصرة. غير أن هذه التخوفات قد تتحول إلى مشكلة أخلاقية وعبء مجتمعي عندما تُستخدم لتبرير تجاهل قضايا فئات اجتماعية مستضعفة تعاني من التهميش والتمييز العنصري والظلم التاريخي المتراكم، مثل فئة "المهمشين" أو "الأخدام" التي يصفها البعض بأنها مجموعة عِرقية من أصول إفريقية.

-التهميش البنيوي: أبعد من النصوص القانونية والمساعدات المادية

يدَّعي البعض أن الدستور اليمني يضمن المواطنة المتساوية، لكن هذا الطرح يؤكد التهرّب من المسؤولية باختزال معالجة الواقع المعقّد للتهميش، وتراكم الاستبعاد والاستعباد التاريخي. فوجود القوانين والنصوص لا يعني تحقيق العدالة، كما أن وجود قوانين تجرِّم الفساد لا يعني أننا نعيش في دولة نزيهة.

الواقع يفصح عن فجوة هائلة بين الخطاب الرسمي والممارسة العملية، حيث تُركت هذه الفئة لمصيرها، تعاني من تهميش بنيوي عميق. واقتصر دور بعض المنظمات الدولية على حلول ترقيعية كتوزيع المساعدات أو المساكن، التي ربما أثرت سلبًا على قضية المهمشين، على الأقل من منظور الفئات المحرومة الأكثر فقراً من غير فئة المهمشين.

ورغم أهمية هذه المساعدات إلا أنها لا تعالج الأسباب الجذرية للتهميش. فالنصوص القانونية والمساعدات الإنسانية لا تحل وحدها مشكلة التهميش البنيوي.

-معارضة مشروع في جامعة تعز: حقيقة التمييز تحت ستار المخاوف الأيديولوجية

في هذا السياق، أثار توقيع جامعة تعز على مشروع TRANSITION لحماية التراث الثقافي للأقليات معارضة بعض التيارات الدينية، تحت مزاعم غير عقلانية من محاولة استحداث "أقليات وهمية"، رغم أن المشروع يستهدف مكوّنات إثنية قائمة بالفعل في المدينة.

وقد تجاوزت هذه الحملة مجرد التشكيك في المشروع إلى التشكيك في مظلومية المهمشين وحقهم في الحياة الكريمة.

-مغالطة "الحتمية البيولوجية": تبرير العنصرية باسم العلم

ما يثير القلق أكثر من الحملات الدينية هو انخراط بعض الأكاديميين في هذه الحملة، بدوافع شخصية أو أيديولوجية، مما يبرز حجم المشكلة وتغلغلها في المجتمع.

في سياق الحملة، خرجت بيانات غريبة من بعض الأكاديميين. ومن أكثر الاعتراضات خطورة ما جاء في رسالة لأستاذة جامعية في علم الاجتماع، حيث بررت مأساة المهمّشين بعبارات عنصرية مثل: "عقدة النقص متوارثة جينيًا لديهم"، وأشارت إلى أنها "أثبتت بالدليل القاطع أن هذه الفئة ليست مضطهدة أو محتقرة اجتماعياً، وإنما هي من تموضعت وجعلت من نفسها مهمشة".

هذا الطرح عندما يأتي من متخصص في علم الاجتماع يثير إشكالية أخلاقية ومعرفية تنطوي على تهميش للمنظور السوسيولوجي ممن يفترض بهم أن يكونوا حاملين لمشاعله.

-تفكيك المقولة العنصرية: بين الحتمية البيولوجية ولوم الضحية

أهم ما يميِّز الباحث في علم الاجتماع أنه لا ينظر إلى الإنسان ككائن بيولوجي محض، بل كنتاج معقّد لتفاعل الثقافة والقيم والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية. وعندما يتخلّى الباحث الاجتماعي عن وظيفته في تفكيك وتعرية هذه البنى، التي تنتج الظلم والتهميش، فهو يستقيل من وظيفته المعرفية ويتقمّص وظيفة أخرى لتبرير العنصرية والاستبعاد الاجتماعي، والدفاع عن إفرازات الاضطهاد التاريخي والظلم القسري، وتبني التفسيرات البيولوجية الزائفة وغير المحققة.

في هذا الإطار، فإن ربط التهميش بالجينات يُعد مثالًا على الحتمية البيولوجية، التي استُخدمت تاريخيًا لتبرير العبودية وجرائم الإبادة الجماعية والتمييز العنصري، من خلال ربط مكانة الإنسان وقدراته بسماته البيولوجية أو "سلالته". وهذا الخطاب يُحوّل المسؤولية عن التمييز من المجتمع والدولة إلى الفرد المستضعف، ويكرِّس نموذج "لوم الضحية" (Victim Blaming) بدل مواجهة جذور الظلم البنيوي.

والتأقلم مع ظروف التهميش ليس خيارًا إراديًا للمستضعفين، بل استجابة طبيعية لتراكم العقبات الاجتماعية والثقافية والسياسية. فالانسحاب الاجتماعي أو التمايز الداخلي والقبول بالوضع بين الفئات المهمشة يفسره علم النفس الاجتماعي على أنه "اضطهاد داخلي" (Internalized Oppression)، حيث يستبطن المضطهدون صورة الدونية، التي فرضها عليهم المجتمع، لدرجة أنهم يصدقونها ويتصرفون وفقًا لها. 

وما يقال عن المهمشين يمكن أن يقال عن المرأة المتصالحة مع وضعية الاستضعاف مثلاً. ولذلك، فإن تحميل المستضعف مسؤولية وضعه الاجتماعي يُعتبر مبررًا للتمييز ومخالفًا للمبادئ العلمية والأخلاقية.

-ما التفسير السوسيولوجي؟

التفسير العلمي يكمن في تحليل "النسق الاجتماعي": كيف تشكل البنى الثقافية (القيم والعادات)، والرمزية (الخطاب والإعلام)، والسياسية (القوانين والتشريعات)، والاقتصادية (توزيع الثروة والفرص) واقع هذه الفئة وتعيد إنتاج تفوق فئات على حساب أخرى.

إنها ديناميكيات القوة والهيمنة التي تخلق "الهامشية" كنتاج طبيعي لعدم المساواة، وليس كخيار فردي أو قدر جيني. وحتى الحديث الجيني عن الذاكرة الوراثية الذي يستخدمه العنصريون في تبرير تصرفاتهم العنصرية؛ لإثبات استحقاقهم للسيادة على بقية طبقات المجتمع، فرغم افتقاره للأدلة العلمية القطعية؛ فإنه لا يرفض الحديث عن تأثير تراكم الصدمات التاريخية والقمع والظلم والاستبعاد، بل يؤكد ذلك.

ويفرض على المناضلين من أجل التمكين للمستضعفين التحلي بالكثير من الصبر تجاه تفضيل بعض المضطهدين لظروف الاضطهاد، ومساعدتهم على التحرر من هذه الوضعية، ويفرض ذلك أهمية تدخل الدولة والمجتمع بمبادرات جادة للقضاء على ثقافة العنصرية.

-التجربة اليمنية والدور الجامعي

إن بعض التجارب المهمة؛ مثل تجربة الحزب الاشتراكي في جنوب اليمن في السبعينات والثمانينات، تُظهر أهمية السياسات الثقافية والتربوية التي تعزز المساواة والعدالة الاجتماعية، وتمكّن المهمشين في التعليم والمشاركة السياسية والفرص الاقتصادية.

من هذا المنطلق، يجب على الجامعات ألا تتحول إلى مؤسسة لإعادة إنتاج العنصرية والاستضعاف، وأن تتحرر من الانحيازات الأيديولوجية، وتتحول إلى مراكز للنقد البنّاء والوعي المجتمعي، وتُعلي قيم العدالة الاجتماعية وتمكين المهمّشين.

والحلول الشكلية لن تنقذ هذه الفئات ما لم تُبنَّ إستراتيجية وطنية شاملة تعالج جذور التمييز وتعيد للمهمشين كرامتهم الإنسانية.

الحل الحقيقي لا يكمن في الترقيع أو في مشاريع الإغاثة المؤقتة، بل في اعتراف جريء من الدولة والمجتمع بوجود مشكلة عنصرية بنيوية. ولا بُد من إستراتيجية وطنية شاملة تعالج الجذور عبر تمكين تعليمي واقتصادي حقيقي، وضمان تمثيل سياسي عادل، وإطلاق برامج ثقافية وتربوية تغير العقلية المجتمعية قبل أن تغير أوضاع المهمشين. وعلى الجامعات أن تلتزم بدورها كحاضنة للبحث العلمي الموضوعي والضمير المجتمعي، لا أن تتحوّل إلى مِنصة لإعادة إنتاج الأيديولوجيات العنصرية والانحيازات الشخصية.

مقالات

التيه الاجتماعي

تصل المجتمعات إلى حالة من الضياع والحيرة القاتلة وانعدام الاستقرار الذاتي والمجتمعي نتيجة المعصية الجماعية، والمعصية الجماعية هي التي تُرتكب تحت رعاية الدولة (المعصية المُرسَّمة أو المُقنَّنة)، أو المعصية التي تُرتكب من مجموعة من الأفراد ولا يوجد من يردعهم.

مقالات

الضربة الإسرائيلية للمليشيات الحوثية: مؤشرات التغيير في معادلة الصراع

الاستخدام السياسي للدعاية و"الممانعة"، الذي تمارسه المليشيات الحوثية منذ زمن، هو إستراتيجية دعائية مكثفة ولأسباب مختلفة، وفقاً لتقرير مجموعة الأزمات الدولية (يناير 2025)، حيث تخرج الحشود للهتاف وإطلاق "الصرخة الخمينية"، والهدف خلق شعور جماعي بالمقاومة والصمود بغض النظر عن التكلفة الفعلية على الأرض.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.