مقالات

دفاتر الأيام.. حين صاغ عوض الحامد كتاب رأس المال شعراً!!

08/07/2022, 13:02:19


(3)

أنتجت مرحلة السبعينات لغتها الخاصة، وكست الحياة بطابعها القاسي والخشن في عدن وبقية المناطق المحيطة بها، أما صورة المدينة وانتقالها من الرفاهية إلى التقشف فقد اختزلها - بمقولة منسوبة لأحد الكتاب وقتها- بمدينة "مصطنعة أقامها مخرج في الصحراء لتصوير فيلم سينمائي، وبعد أن دبّت فيها الحياة لعدة أسابيع هجرتها الأضواء وتركها الممثلون وفريق العمل لتواجه مصيرها المحتوم" ص 27.

هذا التصوير القاسي يتعزز عند الكاتب حين يصفها بقوله "في مطالع السبعينات كانت تغلي في فوهة بركان، وقد أخذ الناس يتحولون بالتدريج إلى أشباح، وجوه مصفرة، أجساد هزيلة، عيون زائغة، شعور منكوشة تجللها الغبرة، وأخذ الكثيرون من الناس والعائلات المستورة يهيمون على وجوههم، بحثاً عن لقمة تسد الرمق بعد أن شحَّت الموارد عقب التأميمات التي شملت كل شيء، والتي لم تفد الدولة في شيء اللهم مدها بمسكن مؤقت لا تدري متى ينتهي مفعوله، وقد لا يظهر له مفعوله أبداً."


 "تطوبرت" البلاد، وأصبحت طوابير المعيشة شغل الناس الشاغل وحديثهم الدائم، ولم يعد هناك سمك طازج، واختفت أنواعه الجيدة التي يعرفها الناس، وظهرت أنواع جديدة ما أنزل الله بها من سلطان، كما نزل إلى الأسواق اللحم الأسترالي (المكفَّن) بلباسه الذي يشبه كفن الأموات.. فقد تم حرمان العاصمة من اللحم بقرار صارم، وانشغلت القوات المسلحة بتفتيش السيارات تفتيشاً دقيقاً، فإذا كنت قادماً إلى عدن من لحج أو أبين ووجدت بحوزتك قطعة لحم لأطفالك الجائعين تكون قد وقعت تحت طائلة قانون لا يرحم  ص 33.


وتمثيلاً لهذه الحالة، يورد النقيب قصة طريفة وتهكمية في آن، وهي أن أحد أقرباء قائد المليشيا الشعبية قرر أن يعزمه على الغذاء، وتحرج أن تكون اللحمة أسترالية مكفَّنة، فخرج بسيارته إلى أبين وذبح رأس غنم بلدي، وحتى لا ينكشف أمره في النقاط وضع اللحمة في الإطار الاحتياط الخاص بالسيارة (التاير) بعد تفريغه من الهواء، وأدخل اللحمة بسلام إلى عدن.


 يقول صاحب الدفاتر على لسان صاحب العزومة:
" قضى قائد المليشيا قضاء مبرماً على اللحم وشكرني، وفي اليوم الثاني فوجئت باستدعائي للتحقيق بتهمة تخريب الاقتصاد الوطني وتهريب الثروة الحيوانية، وكان ضيفي هو من بلَّغ  عني، وبعد هناء دام عدة أشهر وصلت أخيراً لمكتب قائد المليشيا نفسه الذي حذرني وأنذرني قائلاً: إن الموت ينتظرك إذا كررت هذه الفعلة السوداء" ص 34.


يروي فيما يروي فضل النقيب  حكاية طريفة لمحافظ محافظة لحج (المحافظة الثانية) وقتها عوض الحامد - الشخصية الإشكالية المعروفة- مع الشاعر محمود درويش، الذي زار عدن في تلك الفترة، ورافقه النقيب إلى لحج ليرى على الطبيعة تجربة التعاونيات الزراعية، وما أن علم الحامد بزيارة درويش لمحافظة لحج حتى أصر على مرافقته مع النقيب بسيارته الجيب التي أخذت تتطير بهم في طرق غير ممهدة تصعد تلاً وتهبط من آخر حتى أحس محمود أنه سيلفظ أنفاسه.. وأثناء تناولهم للغداء في إحدى المزارع رأى مصور التليفزيون وبيده الكاميرا يصوِّر المأدبة حتى انقض بوجهه، وأمسك بخناقه  ثم طرحه أرضاً وهو مدجج بالأسلحة، وصادر الكاميرا، ولم يرحم دموع المصور التي تعد الكاميرا عهدة على ذمته.


- لماذا يا عم عوض؟ .. "تريدهم يشوفونا بالتليفزيون وقولوا علينا برجوازيين قدامهم خروف مشوي!!
كان المحافظ الحامد يخبئ لدرويش مفاجأة من نوع خاص، فقد أمر أحد مرافقيه بإحضار (المجلدات) من السيارة. ولم تكن المجلدات غير إعادة صياغة الحامد لكتاب رأس المال لكارل ماركس شعراً، فكاد أن يغمى على دوريش، حين طلب منه قراءة المجلدات من الغلاف للغلاف وأبدا رأيه فيها!!


في نص عنوانه "مؤتمر صحفي للغربان"، يسرد النقيب أن الرئاسة طلبت من مدير الإذاعة عمر الجاوي تكليف من يقوم بتسجيل وتغطية مؤتمر صحفي مهم للرئيس سالمين، فكلًّف الجاوي فضل النقيب القيام بالمهمة.. كان المؤتمر في فناء دار الرئاسة بالتواهي المغطى بالأشجار، التي تتخذها الغربان أعشاش لها، فغطت أصواتها الناعقة على تسجيل صوت الرئيس، ففسدت التغطية، فطلب منه الجاوي أن يختفي تماماً حتى من المنزل الذي يقطنه، حتى لا تطاله غضبة الرئيس الذي لم يكن "يسافط".


حدث أن عُينِّت "حميدة زكريا" أول قاضية في جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية مطلع السبعينات في حدث استثنائي في مسيرة الدولة الإشتراكية في المنطقة، فصادف وجود صحفي لبناني معروف في عدن فاتصل بالنقيب لترتيب لقاء صحفي معها في مكان هادئ، فاقترح عليه النقيب اللقاء في كافيتريا  فندق الصخرة "روك هوتيل"، التي كانت وقتها من الأماكن المميزة في مدينة عدن، وحينما تشر الصحفي الحوار لاحقاً  في واحد من كبريات صحف بيروت اختار عنوان "لقاء في البار مع أول قاضية في عدن"، فقال النقيب:


"الله يسامحه البعيد، فقد سبب لي صداعاً لم أشف منه إلى اليوم، فقد ركبني الخوف من أن أمثل يوماً أمام القاضية فتكون القاضية" ص49.
 من الطرائف في كتاب دفاتر الأيام، أن واحدا من أبناء قرية النقيب - القدمة بيافع-  زاره في مقر عمله، وكان هذا الشخص صاحب صندقة في القرية، وجاء إلى عدن لشراء بعد الاحتياجات البسيطة التي يطلبها القرويون هناك ومنها الأحذية البلاستيكية الرخيصة (شمبلات)، فسأله الجاوي عن الحال، وكيف يرى البلاد، فقال له.. والله لقد رأيت في بلادكم ثلاث حكومات الأولى في الخساف، وقد أعطتني من طابورها "شنبلة" واحدة، أما حكومة السوق الطويل فقد أعطتني شمبلتين، وأفضل الحكومات هي حكومة القطيع التي أعطتني ست شمبلات.


قال النقيب:
"فضحك الجاوي كثيراً حتى اغرورقت عيناه بالدموع وهو يقول له: الآن حلّيت الفزورة  التي أكلت مخي يا والد. وظل بعدها الجاوي يسألني دائماً: وين صاحب حكومة "القطيع"  سلم عليه ألله يرضى عليك". ص 51.
الأيام السبعة المجيدة واحدة من المياسم الكاوية في تاريخ مدينة عدن وبقية المناطق، فبإيعاز من أجهزة السلطة فقد "أخذت تتدفق على المدينة على مدار 24 ساعة جماهير غاضبة من الأرياف، يحملون الفؤوس والهراوات والسكاكين والبنادق ينظمون مسيرات حاشدة هادرة ويرددون شعارات ثورية تنادي بتخفيض الرواتب وتحرير المرأة وتقطيع الشيادر، وبين عشية وضحاها جرى اعتقال حوالي خمسة آلاف موظف بطريقة غير قانونية من قِبل المتظاهرين أنفسهم.


توقف الإنتاج الزراعي في المحافظات الزراعية المتاخمة لعدن، فقد كانت الجرارات، ومعها جميع وسائل النقل   تحرث مدينة عدن" ص61.
 يورد الكثير من التفاصيل عن ضحايا الأيام السبعة، ومنهم المثقف والكاتب المعروف فريد بركات، الذي كلفته وزارة الإعلام بالإشراف على مسرح ميداني في ميدان التاكسي بقلب كريتر، تؤدى عليه رقصات شعبية، تحضيراً لمهرجان الشباب العالمي الذي كان مقرراً انعقاده آنذاك في برلين.


 وبسبب "طوسان" فريد بركات المعروف فقد نسي إيصال أجهزة الصوت والإضاءة إلى المسرح، الذي كانت تعرض فيه فرقة "سالمين" من شبوة والعوالق في المحافظة الرابعة، وحين تذكر الأمر وصل إلى المسرح متأخراً، فقام القائمون على الفرقة بشحنه إلى معسكر فتح، وهناك نصبوا له محاكمة سريعة، وقرروا إعدامه، وبعد تدخلات من عبدالله باذيب وقيادات عاقلة أمر سالمين بتأجيل حكم الإعدام حتى الصباح، وقد أطلق سراح فريد بعد أن كتب وصيته، وفقد عشرة كيلو جرامات من وزنه، وكانت القصة رسالة واضحة لأصحاب الألسن والكلمات، وكان يمكن ببساطة أن تكون ممهورة بالدّم.


يروي الراحل محمد الكبير محمد مرشد ناجي في مذكراته قصة مشابهة عن الأيام السبعة، حين نظمت السلطة احتفالاً كبيراً في إحدى المناسبات، وفرضت على كل فناني المدينة المشاركة فيه، وإن الثائرين الريفيين كانوا يقتعدون أرض ملعب الحبيشي أسفل كراسي كبار الحضور، وعلى رأسهم سالمين، وكان حينما يصعد فنان مغضوب عليه من الرئيس وطاقمه ينهض الجالسون الثوريون ويعنفون الفنان وفرقته، وينزلونه من المسرح، وحينما جاء دور الفنان المرشدي -وكان الأخير في فقرة البرنامج- استشعر ما يحاك ضده بسبب علاقته المتوترة بالرئيس، فلم يغنِّ  بحجة أنه لم يستكمل تلحين قصيدة أغنية المناسبة العظيمة، وتركهم ينشدون معه قصيدة أنا الشعب بدون موسيقى، ثم ارتجل قصيدة ثورية للشاعر الجرادة بصوت قوي ومؤثر، وحينما انتهى من إلقائها صعد الكثير منهم إلى المنصة، وحملوه على الأعناق، فقال سالمين "من أردنا منهم بهذلته، قام ببهذلتهم".


كان لحضرموت، في تلك الأيام، محافظ ثوري متشدد اسمه فيصل العطاس (النعيري)، وقريب جداً من سالمين، وأنه ظل لثمانية أشهر كاملة يشرف على تدمير بوابة صلبة لمدينة المكلا شادها سلاطين ما قبل الاستقلال كتحفة معمارية مميزة للمدينة المائية، واختبروا صلابتها بعد تشييدها بعشرات القذائف المدفعية، ولم تتهدم.
 فقد اعتبر النعيرى ورفاقه البوابة التاريخية  من رموز الماضي البغيض.


 الكثير من التفاصيل الساخرة والتهكمية يعرضها النقيب في دفاتر أيامه عن سنواته الأربع في عدن، ومنها قصة زواج عمر الجاوي من ثريا منقوش، التي كان فيها الخاطب، وقصة المشورة الصينية والثورة الفلاحية لسالمين ورفاقه الماويين، وقصة قائد وحمار الشطيري، والإمبريالية التي دمرتها عقبة نقيل الخلا في يافع، وغيرها وغيرها من الموضوعات، ولا يتسع الحيز لمقاربتها وعرض أفكارها الفكهة، التي تتيح للقارئ الإحاطة بواحدة من المراحل السياسية الإشكالية في اليمن من وجهة نظر كاتبها، التي عرضناها في الأصل من بوابة الكتابة الساخرة في اليمن ليس إلاَّ.
انتهى.

مقالات

السلام مع ذيل الكلب!

منذ سنوات طويلة، ونحن نقرأ أو نسمع عن السلام في اليمن، وعن تسوية سياسية، وعن حوار عبثي، وعن رحلات مكوكية، بين العواصم التي تخوض معاركها على الأرض اليمنية، والضحايا هم اليمنيون فقط.

مقالات

عن الأحكام التي تسبق الجريمة

أظن أن النفس البشرية، حتى في أشد حالات نزوعها نحو الشر والجريمة، تبحث في الغالب عن مبررات لأفعالها، ومنها تلك الأحكام الذاتية التي يطلقها الإنسان على غيره، قبل أن يرتكب في حقهم جرما معينا، وهذه الأحكام غالباً لا تمت للقيم الإنسانية بصِلة

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.