مقالات

دكان الطُّلّيس (الحلقة الاخيرة)

22/07/2024, 14:33:10

كان الطُّلِّيس يغادر بيته كل يوم في الصباح، ويقضي يومه في التنقّل من قرية إلى أخرى بحثاً عن ديونه، وعند عودته في المساء، من قرى الناحية ومن القرى النائية، يعود مرهقاً ومتعباً وجائعاً.

وكانت موزة زوجته بمجرد أن تفتح له الباب تبدأ بتفتيش جيوبه بحثاً عن المال، وعندما تجدها خاوية تنشب فيه مخالبها، وتصرخ غاضبة:
- "أني بحاجة بياس يا طُلّيس، عليّ ديون أين البياس لك من الصبح، ورجعت لي فارغ؟!!".

وكان الطُّليس يرد عليها قائلا:
- "سهل يا موزة، سهل البياس شتجي، وكل شي بالسَّهالة".

وكانت موزة تزداد غضبا من رده، وتقول له:
- "لو أنك تاجر مثل التجار كنت شتتزقَّر بدكانك مش تضيع الدكان، وتتزقَّر بالسجل".

وكثيرا ما كانت تهدد بأنها سوف تمزق السجل أو تحرقه:
- "والله لا أقطعه وأحرِّق به".

ولشدة ما كان الطُّليس يخاف من أن تمزّق سجله أو تحرّقه كان يضعه قبل النوم في الصندوق، ويقفل عليه بالقفل، وفي الصباح يخرجه من الصندوق، ويضعه داخل الكيس، و"يتعجَّش" الكيس، ويخرج في رحلة البحث عن الديون، وهكذا كل يوم.

كانت الحرب قد انتهت، وحوالات المغتربين صارت تصل بعد انقطاع، بيد أن أن نساء المغتربين نسين ديونهن للطُّليس، ولم تعد تخطر في بالهن، وإن هي خطرت لم تعد تقلقهن، ولم يعد لديهن الرغبة أو النية في تسديدها، وكن يعتبرنها ديونا ميتة، لكن الطُّليس كان يؤمن بأن الديون لا تموت، ومثل شمشون الجبار الذي كان يستمد قوته من شَعره، كان الطُّليس يستمد قوته من سجله.

 ولكثرة ما راح الطُّليس يدخل ويخرج سِجله من الصندوق ويحمله معه، ويقلب أوراقه، ويتصفح صفحاته، اهترأت الأوراق، وبُهتت الحروف، وتآكلت الأرقام، لكن الطُّليس كان مازال يلوِّح بالسجل، ويشهره في وجوه نساء المغتربين، ويقول لهن:
- "السجل بيني وبينكن".

كان يصدق سِجله، ولديه يقين بأن كل ما هو مكتوب في السِّجل سوف يتحقق في الواقع، لكن المشكلة هي أن زوجات وأمهات المغتربين كن يرفضن تصديق سِجله، وحتى زوجته موزة لم تكن تصدق ما هو مكتوب في سِجله، وإنما تصدّق ما هو موجود في جيوبه..

وذات مساء، وقد عاد من رحلته كما ذهب، ثارت ثائرتها وجُنّ جُنُونها، وحولت البيت إلى جحيم.
كان كل شيء قد نفد في البيت؛ الطحين، الشاي، السكر، الملح، الصابون، السمن، الحليب، ولشدة ما كانت غاضبة منه، ومن نفاد المخزون، قالت له، وهي تحاول انتزاع السِّجل منه:
-"هات السّجل أطحنه، واعجنه، وافته، واعمله فتَّة".

قال لها الطليس، وهو يترجّاها، ويتوسل إليها:
-"سألتك بالله يا موزة تمهلينا لا بكرة.. لو بكرة رجعت بلا بياس اعملي اللي برأسك".

قالت موزة: "وبكرة مو هي ثاني!! هي مثل اليوم، ومثل أمس، ومثل قبل أمس، ومثل كل الأيام".

قال لها الطُّليس: "لا يا موزة.. بكرة خميس شابكر الصبح بدري، واروح اتخلَّص زوجة المُخَرْدَع الكبير 6، وارجع سوق الخميس اشتري لحمة وخضرة وقات نخزن ونسمر"، ووعدها بليلة من ليالي ألف ليلة وليلة.

وضحكت موزة، وقالت له:
- "لكن آخر مرة يا طليس حقك السراج كان طافي".
 
قال لها الطُّليس:
-"الجيب لما يكون فاضي يا موزة السراج يطفي، لكن لو الجيب مليان السراج يلصي".

وفي الصباح، نهض الطُّليس باكرا، وخرج من دون صبوح، وراح يعد السير، وعندما أصبح أمام دار "المخردع الكبير"، راح يطرق الباب، وينادي بكل صوته:
- "يا شموع، يا شموع".
 
نزلت شموع من غرفة نومها تجري لترى من هذا الذي يناديها بكل صوته، وراح بالها إلى أنه رسول من زوجها، لكنها وقد تفاجأت بالطُّليس، أجفلت، وقالت:
- "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. مو جابك يا طُليس!!".

قال لها: "أجيتو أتخلص الدَّين".

قالت شموع محتجة- وكانت امراة متكبرة وممتلئة بالغرور-:
-"مو من دِين يا طُليس!!؟".
قال لها الطُّليس: "عليك دين ثلاثمئة شلن يا شموع".

وانكرت شموع بأن عليها دينا، وأصرَّت على أنها سدَّدت دينها.

قال الطُّليس وهو يشهر سِجله في وجهها:
-"كل شي مسجل بالسِّجل، والسجل ما يكذب".

قالت له شموع، وهي تواصل الإنكار، إن سِجله ليس قرآنا حتى تصدّقه:
-"سِجلك يا طليس مش هو قرآن".

وكان الطُّليس يزعل ويغضب ويُستفز من كل من تشكك في ذمة ومصداقية سِجله، لكنه يومها تمالك نفسه، وراح يمسك بزمام أعصابه، ويحاول معها علَّ وعسى تقرُّ بدينها، وهي تواصل الإنكار، وعندها انفجر الطُّليس وقال لها:
-  "لو أنتي يا شموع أنكرتي الدين اللي عليك بالدنيا ما تقدري تنكري يوم القيامة؛ لأن السِّجل با يشهد عليك أمام ربنا، وربنا بعد ما يسمع شهادة السِّجل، ويعرف بأنك كذابة اين با تروحي من غضب الله، وأيش با تقولي له!!  شتقولي له:
-أني شموع زوجة المخردع الكبير!! هههههههه".

وضحك الطُّليس، وأردف قائلا لها:
-"يوم القيامة يا شموع ما فيش مخردع كبير، ولا مخردع زغير، في حساب وعقاب، والناس كلهم سواسية مثل أسنان المشط".

ولشدة ما أوجعها كلام الطُّليس راحت تْعْوِلْ وتُوَلْوِل، وتشهِّد أهل القرية على الطُّليس:
-"اشهدوا لي على الطُّليس بكَّر لي مثل ابليس يقول عليَّ كذابة، ويفجعني بيوم القيامة".

وخرج فتيان القرية من بيوتهم وراحوا يتحلقون حول الطُّليس، والغضب يسطع في عيونهم، لكن الطُّليس قال لهم وهو يريهم السِّجل:
-" عليها دين ثلاثمئة شلن، وهي تنكر".

قالت شموع أمامهم، وهي تواصل البكاء:
-"سجلك يا طليس مش هو قرآن".

وأقسمت أمامهم بأن الطُّليس يكذب، وسِجله كاذب، لكن فتيان القرية وصعاليكها كانوا موتورين وحاقدين على الطُّليس؛ لأنه كان يردهم، ويصرفهم، ويرفض أن يبيع لهم سجائر على الحساب، ويومها قالوا له إنه بعد ان فلَّس خرج يبحث عن ديون لا وجود لها:
- "بعد ما فلَّست يا طُليس وقفلت الدكان خرجت تدور ديون ما هلهاش".

وزعل الطُّليس من كلامهم، ومن انحيازهم إلى زوجة المخردع الكبير، وقال محتجا:
- "تصدقوا زوجة المخردع الكبير، وتكذبوا السجل؟!!".

كانت زوجة "المخردع الكبير" صغيرة وجميلة، ولها جسد  مترف، وزوج مغترب وغني، داره أكبر وأحدث دار في القرية، وكان قد بنى داره من حجارة منحوتة ومصقولة، لكأنها قطع الصابون.

وحتى يتقربون منها، رحوا يهجمون على الطُّليس ويوسعونه ضربا، وكانوا يشعرون وهم يضربونه أمامها كما لو أنهم يعزفون لها لحنا، ومن سطوح بيوتهن كانت النساء يناشدنهم أن يتوقفوا عن ضربه، لكنهم كانوا مستمتعين، وزوجة المخردع هي الأخرى مستمتعة.

وعندما حضر عُقال القرية، كان الطُّليس مطروحا بالأرض، والدَّم يسيل من فمه ومنخريه، والفتيان فوقه يضربونه، والسِّجل تحته، ورغم محاولته لحماية سِجله بجسده إلا أن أكثر أراق السِّجل كانت قد تمزقت، وتلطخت بدمه.

وأمام عقال ووجهاء القرية راح الصعاليك يبررون جريمتهم بالقول:
- "الطُّليس يقول سجله قرآن".

لكن الطُّليس، وقد نهض من الأرض محطَّما، لم يكن بقادر على أن يقف أمام عقال ووجهاء القرية، وينفي التهمة عنه، وحتى لو يقدر لم يعد يهمه أن ينفي شيئاً، أو يثبت آخر، كان قد فقد الأمل بانتصار العدالة في الدنيا، ولم يبق أمامه سوى عدالة الآخرة.

وفي طريق عودته إلى البيت، وأثناء مروره من تحت بيت عالية شمسان، زوجة المغترب عبد الرؤوف، تناهى إلى سمعه صوتها، وهي تناديه، وتطلب منه أن يتوقف، وكان عليها دين، وترغب في تسديده، لكن الطُّليس لم يتوقف، ولم يرد عليها، وانما راح يشخص ببصره إلى السماء، ويراقب سربا من الطيور مر من فوقه، ويواصل السير عائدا إلى بيته في حيفان.

وعند وصوله، صعد درج البيت بصعوبة شديدة، وحين رأته موزة يدخل عليها، ورات الدَّم يلطخ وجهه وثيابه وسجل ديونه، تألمت لحاله، وسالت دموعها، وتذكرت أنه خرج من دون أن يتناول فطوره.

وأسرعت إلى المطبخ تعجن وتخبز بما تبقى لديها من طحين، وحين انتهت، وقدمت له خبز الطاوة؛ ليتعشى، أبصرته نائماً، وكان في ظنها أنه نام من التَّعب، لكن الطُّليس كان قد غادر الحياة الدنيا جائعا مظلوما، وذهب إلى ربه "مُتَعجِّشاً" سِجل ديونه، لكن أكثر ما أوجع زوجته موزة هو أنه مات بدون عشاء.

مقالات

لا تتركوه من صالح دعواتكم

شخصية الرئيس هادي بحاجة إلى دراسات معمقة. دراسة سيكلوجية لمعرفة الأسباب النفسية التي دفعته لتحطيم الدولة، وتسليمها إلى قبضة مليشيات متنافرة في الشمال والجنوب، متواطئا مع دول إقليمية ودولية.

مقالات

الحلم لا يموت

"نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً"، لأننا ندرك أن الحياة ليست لنا وحدنا، بل هي للذين سيأتون بعدنا. نحمل في صدورنا شمساً صغيرة، نضيء بها ظلام الأيام، وننثر في الريح قصائدنا، علّها تصل إلى أرضٍ لم تحرقها الحرب، أو إلى بيتٍ لم تهدمه القذائف.

مقالات

ثوار 14 أكتوبر وأرشيف المحتلين

أثار انتباهي في السنوات الأخيرة ظهور الكثير من الوثائق والصور والأفلام التي تُعرض عبر القنوات الفضائية اليمنية، وهي وثائق تحكي عن ملاحم سطّرها أبناء مدينة عدن في نضالهم ضد الاستعمار - البريطاني البغيض - الذي رزح بين ظهرانيهم 129 عاماً

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.