مقالات
رجال الحركة الوطنية وهاجس التعليم (3-3)
بادرت طلائع التنوير في اليمن، منذ ثلاثينات القرن الماضي، للقيام بمحاولات لإصلاح التعليم، باعتباره الخطوة الأولى نحو التغيير في البلد، ومفتاح الخروج من حالة التخلّف المزرية، والقاعدة التي تمكِّن اليمنيين من الوقوف عليها بثبات لمحاربة الاستعمار، والقضاء على الإمامة المستبدة.
انطلقت مبادرات إصلاح التعليم الأولى من مدينة عدن، ومنها إلى شمال الوطن، وقد كانت البداية "في العشرينات على يد محمد علي لقمان وأحمد محمد الأصنج، ثم انتقلت في منتصف الثلاثينات من عدن إلى تعز في الشمال المستقل على يد أحمد محمد نعمان".
[صادق محمد الصفواني: "تأسيس البعثات الطلابية اليمنية في مصر" في ثلاثينيات القرن العشرين]. غير أن محاولات التحديث التي حاول الأستاذ النعمان القيام بها في 'مدرسة ذبحان'، قد باءت بالفشل، وذلك بإغلاق المدرسة -كما مرّ في المقال السابق- من قِبل سلطات الإمام يحيى.
وجاءت الخطوة التالية لتحديث التعليم في شمال اليمن، التي كانت حينها تحت قبضة الإمام يحيى، مع عودة البعثتين اليمنيتين من العراق، أواخر الثلاثينات، وقد كان أغلبهم من خريجي الكليات العسكرية، مثل: المشير عبدالله السلال، وأحمد المروني، والشهيد محيي الدين العنسي، لكنهم رغم ذلك انخرطوا في سلك التعليم، وقد كان للأستاذ الشهيد أحمد الحورش، خريج دار المعلِّمين في بغداد، الدور الأكبر في محاولات تحديث التعليم في صنعاء، خلال حكم الإمام يحيى، حيث قام مع رفيقه الشهيد محيي الدِّين العنسي بإنشاء المدرسة الثانوية الوحيدة في صنعاء، بعد مطالبات ومحاولات عديدة لإقناع الإمام بافتتاحها.
شارك الشهيد الحورش، فور وصوله إلى صنعاء عام 1939م قادما من بغداد، في تأسيس المدرسة الثانوية، وكان عقلها المفكِّر، وقطب حركتها، وقد التفّ حوله مجموعة من الشباب، رأوا فيه المصلح الاجتماعي والمفكّر السياسي، وشرع مع زملائه بعد وضع خطتها، في التدريس على الأصول الحديثة، كما يقول زميله الأستاذ المناضل أحمد المروني.
لم تسمح سلطة الإمام يحيى الكهنوتية للأستاذ أحمد الحورش أن يواصل تعليم الطلاب في المدرسة الثانوية على أسس حديثة، فضيّقت عليه الخناق، ومنعت المحاضرات التي كان يلقيها على التلاميذ، ثم أقفلت المدرسة الثانوية الوحيدة في البلد. وكان نجل الإمام سيف الإسلام عبدالله (وزير المعارف آنذاك)، من يقف خلف مضايقته.
وقد تناول الشاعر والمؤرخ أحمد محمد الشامي، أحد مؤسسي 'حزب الأحرار' في عدن عام 1944م، في مقالة بعنوان "هل في اليمن مدارس حديثة للتعليم"، تطرّق فيها إلى إغلاق الإمام يحيى المدرسة الثانوية في صنعاء مطلع الأربعينات، بعد أقلّ من عامين من افتتاحها، ونشرها في جريدة "فتاة الجزيرة"، باسم مستعار هو "فتى الفليحي"، الذي كان معروفا به، يرد فيها على بعض المتشدّقين الذين حاولوا الترويج بوجود مدارس حديثة في اليمن آنذاك، والرد على مطالب الأحرار المنادية بفتح التعليم الحديث في اليمن، وقد جاء فيها: "أما المدرسة الثانوية فهي التي طالما سعت البعثة اليمنية العراقية لإنشائها. وقد أسست أخيراً، واختير لها تلاميذ من المدارس الثلاث. وكان القائم بالأعمال فيها والمهتم بشؤونها الأستاذ الأديب أحمد حسن الحورش، وقد كان يريد أن يجعل هذه المدرسة كاسمها وأن تكون دروسها عالية تطابق المنهج الحديث.
وفعلاً دبر الخطة مع زملائه المدرّسين وشرعوا في التدريس على الأصول الحديثة، ولم يتركوا جهداً في بث الروح القومية في التلاميذ، وتحبيب الثقافة والعلم والمطالعة إلى قلوبهم.
وداموا كذلك عاماً وبضعة أشهر، تقدمت فيها المدرسة تقدماً كبيراً، مما شغل فكر وزارة المعارف، وأقلق راحتها، فانتبهت للقضية، وراقبت الدروس التي تُلقى في هذه المدرسة، ومنعت المحاضرات التي ابتدعها الحورش، وأغلقت فرقة المطالعة. والحاصل أنه لم تأتِ بضعة أشهر إلا والمدرسة الثانوية عبارة عن كتاب حقير، ولم يبقَ لها إلا اسمها." [سلطان ناجي: "دور فتاة الجزيرة في أحداث صنعاء" 1948 ص12].
تشير جميع الشواهد إلى أن مواجهة تحديث التعليم ونشره كان الموقف الذي أجمعت عليه منظومة الحكم الإمامي، في النصف الأول من القرن العشرين، ابتداءً من الإمام، مروراً بأبنائه، وحكام المناطق، وانتهاءً بالنّخب الملتفة حول عرشه. فقد قام الحسن بن الإمام يحيى بإغلاق المدرسة في 'لواء اب'، وقبله قام علي الوزير أمير 'لواء تعز'، بإغلاق مدرسة 'ذبحان وحيفان'، كما مر معنا في المقالات السابقة. وكانت المواقف المفزعة، التي تظهر الصورة الكالحة لسلطات الإمامة من التعليم، هي تلك التي جاءت من الشخصيات التي تحتل مكانة علمية، ومعرفية رفيعة داخل منظومة الحكم، في عهد الإمامين يحيى وابنه أحمد، كما توضّحه رسالة المفتي أحمد محمد زبارة للشهيد محمد محمود الزبيري، بأن يتوقّف هو والأحرار عن مطالباتهم الإمام أحمد بنشر التعليم في أوساط القبائل، وبناء المدارس، والمستشفيات، "وأن من الأوْفق لهم – أي الأحرار - أن لا يسعوا إلى تحسين وضع القبائل وتعليمهم وإدخال الوسائل الحديثة لإسعاد أهل اليمن من بناء مدارس ومستشفيات وطرقات. وأن لا حاجة لهم من التعليم غير معرفة فروض العبادة، وأن الأولى والأجدر بالقبيلي أن يبقى فلاحا، فلا يحتاج إلى نعال ولا إلى ملابس ولا إلى علاج، بل يجب أن يستمر في جهالته وشقائه وبؤسه ومرضه بجوار ثوره ومحراثه وماشيته" [إسماعيل الأكوع: "هجر العلم"- مصدر سابق 604 ج2].
لم تكن مواقف الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن، تختلف في تعاملها مع دعوات تحديث التعليم، ومطالبة المجتمع بذلك، عن سلطات الإمام، إلا في عدم إغلاق المدارس الأهلية التي أنشأها السكان، وعدم ملاحقة ومطاردة دعاة التحديث، والزّج بهم في السجون، لكنها لم تسهم بتحديث التعليم، أو ترسل -خلال أكثر من قرن- بعثات طلابية من أبناء عدن، أو المحميات إلى الدراسة في الخارج، وكان الطلاب المبعوثون قد غادروا على نفقة أهاليهم، وعند عودتهم إلى البلاد، لم تقبل سلطات الاحتلال إلا بأفراد معدودين في الوظائف الحكومية لتطوير التعليم، بحيث ظلت هذه الوظائف محتكرة في الموظفين البريطانيين، "ولم ينل من هذه الوظائف أبناء عدن حتى خريجو الجامعات إلا خمسة فقط، وكان هذا بعد مخاطبات وصلت إلى وزير المستعمرات البريطاني" [محمد علي لقمان: "عدن تطلب الحكم الذاتي"- ص211، "الأعمال المختارة" جمع وإعداد الدكتور أحمد الهمداني].
لقد ظل التعليم لدى رجال الحركة الوطنية هاجسهم الأول، حتى وهم داخل سجون الإمامة، والقيود تطوّق أقدامهم، وأعناقهم، أو في المنافي هاربين ومشرّدين، كما عمل غالبية الأحرار في سلك التعليم، وقادوا حركات التغيير، وتولّى العديد منهم رئاسة الدولة، والحكومة، وأثبتت الأيام والأحداث صحّة تصوراتهم، وصواب الطريق الذي سلكوه، بأن تدمير الإمامة يبدأ في العقول، وأن مواجهة المستعمر ودحره من الوطن يأتي من المدرسة، والصفوف الأولى للتعليم، ومن الصعب أن يحقق المستبد الداخلي، والمستعمر الخارجي في بلادنا اليوم أوهامه، وأطماعه، لكنه يرى في ضعف القيادات السياسية واهتزازها ما يشجّعه على التمادي في محاولة إعادة الماضي الآثم.