مقالات
رمضان الذي فرَّ إلى الأبد!!
الأيام التي كنتُ أقضيها رفقةَ أمي في القرية، كانت متباعدة إلى حد ما، لكن بقيتْ في ذاكرتي معشعشة، بشكل عجيب إلى حد تفاصيل التفاصيل، كانت بدايتها الأيام التي نسافر فيها من المدينة إلى القرية، وقد تبقت أيام من رمضان قبل العيد كأنها أيام من الجنة، كنت آنذاك بالصفوف الأولى الابتدائية، لكنِّي سأحاول إفراغ بعض الجمال في ذاكرتي لتلك الحياة الريفية قبل أن تصبح معقَّدة بعد سنوات طويلة، كما هي الحال اليوم.
كانت أمي مختلفة بطقوسها اليومية عن جميع نساء القرية، فكانت تبدأ بكل شيء وتؤخِّر اللَّحُوح إلى قبل المغرب بقليل، حتى نأكل اللحَّوح، وهو مازال دافئاً شهياً، عكس نساء القرية اللواتي "يلُحَّين" بعد صلاة العصر مباشرةً، ثم يتفرغن للأطعمة الأخرى، فلا يأتي المغرب إلا واللحُّوح "سُجمْ عِجلْ"؛ أي بارد بلا طعم، كانت أمي تتفنن في تدليلي، ولذلك أٌسمي نفسي أحياناً "دلوعة ماما"؛ لإغاظة من لا يفهمني في مسألة دفء ولذة الطعام وطُرق تحضيره، وفيما يتعلق الأمر بالطعام عموماً حتى اليوم.
كانت أمي تبدأ بذبح الدجاجة البلدي، أو الديك، وكانت الدنيا بخير، فتبدأ رائحة المرق تنبعث، وترفع نسبة الاشتهاء للإفطار بكل قوة عند صبي في عمري يكذب أنه يصوم، وما أجمل اللحَّوح مع مرق الدجاج البلدي، وكان معها "صُعدَينْ"، واحدٌ للمرَق واللَّحم والشُّربة وغيره، وآخر للَّحُوح، وهو الصُّعْد المقدَّس الذي يقع بالدَّرَج، وبجواره حجرة البسباس التاريخية، وكان الطعام ليس فيه هذي الطلافس واللَّواحِس من المحلبية وما شابه.
كانت المّلَحَّة المقدَّسة لا يمسها غير أمي؛ حفاظاً على سلامتها، فتضعُها على نارٍ هادئة، ترتفع تدريجياً بمقدار ما تحتها من حطب، وتبدأ بتمرير يدها بخرقة المّدْسُنة، التي تحتوي على صُلْب لتكون سلِسة، ولا تمسك باللَّحُوح فوقها، وتبدأ بتدوير يدها بأول لحُوحة، وقد اختمَرت مادة اللَّحوح بشكل رائع بلا حموضة وما شابه، فتأتي لحُوحة رشيقة لم أعد أرى مثلها أو بطعمها، وعندما أحاول التهام أول لحُوحة تمنعني أمي؛ باعتبارها الباردة، ولا تريد لعُرسي أن يكون بارداً وبلا وليمة.
وتواصل عمل اللَّحُوح، وقد تجهز كل شيء: الحقين للشفوت، والبسباس الأخضر المطحون فوق الحَجرَة، و"الطماطيس" من حوش البيت، والشُّربة قد استوت، والمرَق والدجاجة رائحتها تغري الجميع، وأنا وإخواني وأبي على وشك الهجوم الكاسح على كل شيء، وصوت الشيخ القارئ القريطي يتلو ما تيسر من القرآن عبر إذاعة صنعاء، بصوته المليء بالشجن الديني.
وأنا أنتظر جوار أمي، وهي على وشك الانتهاء من اللَّحُوح، أن تفعل لي لحُوحة او اثنتين مع السمن والبيض، وتضعهما جانب الصُّعْد لتبقيا دافئتين، وكنتُ التهمهما وحدي بدون شركاء، أما قبل الآذان أو بعد الآذان، غالباً آكله قبل حتى لا يشاركني فيه أحد.
أما عن حقين رمضان، فالحكاية طويلة جداً، خلاصتها ومركزها بقرة أمي مُهرَة، وأقسم لكم كانت هذي البقرة مقدَّسة، فكانت الدبية الكبيرة للحقين لا تتسع لحقينها، فتضطر أمي إلى رجه مرتين، ليمتلئ دست كبير، وكان سمنها في كل شُحج ورف في البيت الداخلي، الذي تحتفظ فيه أمي بالأشياء الثمينة، وكان بيتنا قِبلة القرية والقُرى المجاورة، وكان الحقين يكفي الجميع، ولو رأى عبد الكريم الرازحي حقين بقرتنا وتذوَّقه لحوَّل روايته "البقرة البيضاء" إلى "البقرة المقدَّسة مُهرة".
وهناك حقيقة واحدة أريد أن أعترف بها هنا، وهي أن حقين ولبن وسمن "مُهرة" كنتُ أنا الابن الأناني، والمتمرِّد والمشاكس، أكبر المستفيدين منه، وخاصةً في أيام المراهقة الأولى، وأيام الثانوية، وفترة زواجي الأول، وبعد ذلك توظفت في مدينة الحديدة، وغبت عن القرية فترة طويلة، كانت البقرة "مُهرة" قد شاخت، واضطر والدي إلى بيعها بثمن بخس ريالات معدودات -بكل أسف- ناسياً كل خيرها؛ من السمن واللبن والحقين والعجول، رغم محاولتي إقناعه بعدم بيعها، وتركها تكمل حياتها في بيتنا، حتى لو اشترينا بقرة غيرها، الله كم حزنتُ، وأسفت عليها حتى اليوم، ولذلك عوقب أبي بأنه لم يتوفق في شراء أي بقرة بعدها مثلها، أو تدانيها في الخير والبركة.
سأذكر لكم أمراً واحداً أخيراً ، حين كنتُ أدرس في النشمة، المرحلة الإعدادية، وهي أجمل سنوات عمري، كتبتُ روايةً حول تلك السنوات، التي كان الخير فيها وفيراً في كلِّ اليمن، بعنوان أولي وعريض "أيام فرّتْ من بين أيدينا إلى الأبد"، وكان الريالُ ريالاً، والدولار بأربعة وأقل من ذلك، والريال السعودي بريال فاصل 25 فلسا، وكنتُ أصحو أيام العطل الأسبوعية والصيفية قُرب العاشرة وما بعدها، وقد ذهبتْ أمي إلى الحَوْل أو الأرض، وتركت لي فوق الصُّعْد -على نار دافئة- خبزاً مع اللبن والسمن، وقد أصبحتْ رائحته تشبه وجبات الجنة، التي وعد اللهُ بها المؤمنين، وبجواره بسباس أخضر مطحون، وثلاجة الشاهي المُلبَّن.
في منتصف عام 1987م، وفي مايو تحديداً، تزوجت على حساب والدي، وكان مغترباً، وكنتُ لا أملك سوى ريال واحد فقط صباح يوم العرس، قام عمي أحمد سعيد -رحمة الله عليه- بكل شيء، ولم يأتِ العصر إلا ومعي أكثر من 20000 ريال؛ بقيت أصرف منها لشهور عديدة، وكنت أعطي عمي الصباح مائة ريال فقط، أيام العرس، فيشتري لي أحسن "كِلْوات"؛ وهي رُبطة "قَات" حصباني من "قَات" صبر، اسمه "الذَّلِيل"، يعتبر سيّد "القَات"، ثم استلمت راتب 3 شهور تدريس إلزامي قدره 5400 ريال؛ عشتُ فيها في نعيم، وكنت إذا أردت شراء طلي أو جدي لا يكلفني سوى 250 ريالاً فقط لا غير.
وللأسف، كل ذلك تغيَّر بعد الوحدة، وانتقلنا إلى حياة تشبه الجحيم، وإلى أزمات متسلسلة اقتصادية وسياسية واجتماعية وتعليمية، لم تتوقف حتى اليوم، دفعنا ثمناً باهظاً جداً للوحدة كمواطنين، ولم نجنِ منها شيئاً. إذنْ السؤال العريض: من الذي حقق مكسباً من الوحدة بالضبط؟ هذا قد يكون سؤالاً مستقبلياً وليس آنياً ، وهل سيعود اليمن مستقراً قوياً يعيش أبناؤه فيه بكرامة وعزة وتقدم ومواكبة المستقبل الرقمي والتقدم العلمي الهائل؟ ومتى؟ أم سنظل على هامش هذا الكون الواسع الفسيح نصارع من أجل البقاء؟!!