مقالات
سبتمبر الثورة جذوة لم تنطفئ
في سبتمبر العام 1987م، وظِّفت إمكانيات حكومية وخاصة كبيرة للاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين للثورة.
كان عيداً باذخاً، تصورنا -نحن الشبان- وقتها أن المبالغة في احتفالات مثل هذه هي جزء من إفراط السلطة، التي لا علاقة لها بهذا الفعل التحولي الكبير الذي نقل اليمن من ظلمة القرون إلى لحظة النور، لأن هذه السلطة بتركيبتها في ذلك الوقت تنتمي لحالة مناقضة تماماً لسبتمبر، وبفعلها هذا تستخدم المناسبة كشعار لخدمة هدفها في إدامة الحكم داخل منظومتها، وتسوِّق نفسها باعتبارها قِيمة سبتمبرية نقيّة، ثم إنَّ حديثها المبالغ عن المخاطر، التي تتربص بالثورة في خطابها المكرور، هو جزء من هذا الاستخدام، لأن نظام الإمامة، من وجهة نظرنا، قد قُبر إلى الأبد!!
بعد أقلّ من ثلاثة أعوام من ذلكم التاريخ انشغلت البلاد من أقصاها إلى أقصاها بحدث تاريخي كبير، وهو التحام الشطرين في دولة واحدة في مايو من العام 1990م، فطغى هذا الحدث الوطني على ما دونه من أحداث وطنية بما فيها ذكرى سبتمبر، على اعتبار أن هذا الفعل هو أحد الأهداف الاستراتيجية التي بشرت بها ثورتا اليمن المجيدتان (سبتمبر وأكتوبر)، غير أن دخول شريكي الوحدة في أزمات متعاقبة أفضت إلى حرب صيف 1994، وما ترتّب عليه من اجتياح تحالف سلطة صنعاء ذاتها المحافظات الجنوبية، وإنتاجها مفهوم عودة الفرع إلى الأصل، وما تبع ذلك من عملية ضم وإلحاق، وتجريف للمقدرات الطبيعية، والمكتسبات الثقافية والاجتماعية في هذه المناطق، وتالياً فرض منطق غلبة هذه السلطة المنتصرة بكل إرثها المتخلّف والمُعيق لبناء الدولة والمواطنة المتساوية والشراكة في الثروة والسلطة؛ حوَّل هذا المكتسب العظيم إلى مظلومية كُبرى، حملها على كواهلهم لسنوات أبناء هذه المحافظات، لتصير مع الوقت قضيّة سياسية بامتياز، بعد أن بدأت بمنزع حقوقي صرف.
منذ يناير 2007م، وهو عام ولادة الحراك السلمي للقضية الجنوبية، بدأت الأمور تأخذ منحًى مختلفا، إذ صارت المفاهيم الكبرى كالوحدة محل مساءلة قاسية، إن لم نقل محل تشكيك فادح من جيل جديد هو في الأصل الابن الطبيعي لهذا التاريخ.
هذا المحمول الوعيي الجارح قاد بدوره الكثيرين إلى التفتيش عن تواريخ مهملة، بدأت تتسرّب من وعيهم في زحمة وتداعيات الأشياء التي انشغلوا بها، وأثناء تفتيشهم استدعوا الجوانب الأكثر إشراقاً في تواريخ سبتمبر وإكتوبر ونوفمبر ومايو (عيدا الثورتين، وذكرى الاستقلال، وعيد الوحدة)، لأن ما فعلته السلطة من عبث في هذه التواريخ، التي كانت تتستّر خلفها، خلال عقدين كان فظيعاً، قادت المتضررين في قاع المجتمع إلى كُره هذه المناسبات.
فالسلطة التي استنبتت في طريقها أكثر التكوينات ظلامية وإعاقة، وجعلتها جزءاً نشطاً في سياقها الحاكم، وفي لعبتها السياسية، صارت في هذا المنحى هي الصوت المتغوِّل والفاعل خارج إرادة المجتمع، والقادر على تشويش الصور الناصعة في تاريخ اليمنيين، وعلى رأسها تاريخ الثورة.
ويتساءل سائل: كيف تم ذلك؟ أما الإجابة تتكثّف في القول إن السلطة استنبتت في البداية الجماعات الدِّينية ووجهتها، لتكون جزءاً من صراعها مع قوى التحوّل والتغيير في المجتمع، ومكّنت هذه الجماعات من التعليم والإرشاد الدِّيني حتى تصير مخلبها المسموم الموجَّه لجسوم معارضيها، فهذه القوى كانت ولم تزلْ ترى في سبتمبر عدواً حقيقياً، بما حمله من توجُّه ناقض لمشروعها الماضوي المحافظ والمنغلق، وكان الدور الأبرز الذي لعبته هذه الجماعات أولاً في حروب المناطق الوسطى ضد ما أسمتهم بالمخرِّبين الشيوعيين، وتالياً في عدائها الصريح لدستور دولة الوحدة الذي صاغه الشيوعيون كما قالت، قبل أن تكون الرَّقم الفاعل في هوجة شعار "الوحدة أو الموت"، لرغبة تحالف الحكم في ذلك، ليكون هذا الشعار مسوغاً لاجتياح الجنوب الشيوعي بالأدوات ذاتها أيضاً، لتصير هذه الجماعات جزءاً أصيلاً من مشروع الحكم متعدد الأطياف (عسكر، وقبائل، ودِينيين، ومناطقيين، وأصحاب ثارات سياسية لم تبرد بعد).
وحين تقاطعت مصالح هذه القوى بشكل صريح مع بروز فكرة التوريث قبل انتخابات الرئاسة في العام 2006، بدأت هذه الجماعات بإنتاج تحالفاتها السياسية مع أعداء الأمس، وفي الوقت ذاته، عملت سلطة صالح منفردة على نسج تحالفات جديدة من خارج تحالفها التاريخي هذا، ومع قوى كانت تراها عدواً تاريخياً للثورة اليمنية، فقوَّت شوكة الحركة الحوثية، التي كانت قد استنبتتها تحت مسمى "حركة الشباب المؤمن"، منتصف التسعينات لاستخدامها في خصوماتها مع السعودية، أو في تنازعها مع حلفائها الدِّينيين من زاوية التناحر المذهبي، الذي أسبغت عليه لاحقاً الصفة الطائفية المعتلة (الشيعي/السُّني).
في السياق ذاته، لا ينكر كثيرون أن الذراع المتشددة للحراك، الذي رفع شعار "فك الارتباط واستعادة الدولة"، الذي تشكَّل خارج أوعية تكوينات الحراك السلمي، كان لسلطة صالح الأمنية الدور الأبرز في إنتاجه وتسويقه وتقويته، من باب خلط الأوراق في بلد سيصعب لاحقاً على اللاعبين إعادة فرزها وتنظيمها، في حال خسرت السلطة العميقة حكمها.
خلاصة القول إن استنبات السلطة لهذه التكوينات المتشددة الانعزالية، والتفكيكية في مسار القضية اليمنية، كان الهدف منه إفراغ الثورة ومشروع الدولة من مضامينها التحديثية. فالجماعات الدِّينية المتطرِّفة لم تكن يوماً مع توجُّهات سبتمبر، وناصبتها العداء منذ أول يوم، ورأت فيها ثورة جاهلية، مثلما ناصبت دولة الوحدة ودستورها العداء، لكنها مع بزوغ المشروع الاستحواذي للسلطة الراعية لها في المحافظات الجنوبية صارت رأس حربتها في حرب صيف 1994م، واستطاعت مع هذا الوضع تأسيس قواعدها الصلبة في المناطق التي كان يسيطر عليها عدوها الأبرز (الحزب الاشتراكي اليمني)، الذي صار لاحقاً جزءاً من تحالفها المعارض لسلطة صالح حين فكت الارتباط الشكلي به (والسياق هنا ليس لقراءة هذه الحالة تحديداً)، الحركة الحوثية هي حركة إمامية بامتياز، وبقيت مثل تكوينات الهاشمية الكهنوتية تتربص بالثورة السبتمبرية منذ الأيام الأولى لقيامها، وحين تقوَّت لتصير الذراع العسكري المتطرِّف للهاشمية، خاضت حروباً في الظاهر كانت ضد السلطة المركزية، لكنها كانت ضد خصومها المذهبيين ومشروعهم الدِّيني في عمق الحاضنة الزيدية (صعدة)، ولم تستوِ هذه الحركة إلاًّ في سنوات الربيع ومتبوعاتها، وبقليل من القوات وبكثير من دعم سلطة صالح أُسقطت العاصمة، ووجدت في استقبالها بنيَة تنظيمية متماسِكة في المؤسسات والجهات الحكومية اسمها اللجان الثورية (التي تشكلت من عصبويي السلالة)؛ وخلال خمسة أشهر كانت قد أسقطت معظم المُدن والمحافظات وصولاً إلى عدن، دون بروز أي اعتلالات في جسوم المؤسسة الرسمية.
المجلس الانتقالي الجنوبي وبدعم إماراتي واضح، وهو الداعم ذاته لسلطة صالح، قدَّم نفسه كوريث لتكوينات الحراك السلمي، ورفع شعار "إسقاط الوحدة"، وتوصيف الشمال باعتباره احتلالاً، وهندس شعاراته على خلفية مظلومية 7 يوليو 1994م، المرتبطة بإخضاع سلطة صنعاء المحافظات الجنوبية.
الثلاث القوى، التي استنبتتها منظومة الحكم، هي التي تحاول اليوم محو إرث اليمنيين في الثورة والوحدة، وإحالته إلى ذكرى متحفيَّة، يسهل استدعاؤها بمتوجبات الحنين فقط كلما حلّت كذكرى في رزنامة الأيام، وليس كفعل يمكن الاستقواء به والتعويل عليه.
غير أن شعور اليمنيين بعظمة هذه المحطات جعلهم يعيدون التذكير بها فيما يكتبون ويقرأون، من زاوية أن هذا الإرث العظيم لا يمكن أن تجرفه موجات طارئة على تاريخهم، حتى وإن دعمها العالم بأكمله، لأنها ببساطة ضد منطق التاريخ، وضد هوية اليمنيين، التي قد تبدو في زحمة الضجيج ميّتة، لكن جذوتها لم تزلْ تنبض بالحياة.