مقالات

سرطانات تعز!!

07/08/2024, 06:30:32

نهاية رمضان الفائت، وجَّه طبيب الأورام اليمني المُقيم في ألمانيا، هلال نعمان، مناشدة لفاعلي الخير لشراء جهاز مُهم للغاية لمركز الأمل لمكافحة السرطان في تعز.

مشكلة تعز أنها أكبر محافظة من حيث تعداد السكان في البلاد بقرابة 6 ملايين نسمة (إحصائية قديمة)، وهي أكبر بُؤر الإصابات بالمرض القاتل.

حتى الآن ما من سبب واضح يمكنه تفسير زيادة الإصابات فيها مقارنة ببقية المحافظات؛ بالتأكيد ليس السبب النسبة السكانية العالية.

مع ذلك، فالمركز الذي يستقبل آلاف الحالات، في الشهر الواحد (استقبل أكثر من 11 ألف حالة مرضية خلال شهر سبتمبر 2023)، لا يمتلك جهاز "الماموجرام"، الذي يساعد على الكشف المبكر عن السرطان، والتخفيف من كلفة السفر على المرضى.

كان الدكتور هلال، وهو طبيب يمني نابغ درس البكالوريوس والماجستير في مصر وأكمل الدكتوراة في ألمانيا في تخصص الأورام، قد لمس المعاناة الهائلة للمرضى في اليمن من خلال فترة عمله المحدودة تطوعياً في مركز الأمل بتعز، وكانت دراسة الماجستير خاصة عن مرض السرطان في المحافظة.

أثناء دراسته في مصر، كان قريباً من المرضى اليمنيين، يرافقهم، ويقدِّم لهم المساعدة والاستشارات.

بعد سفره إلى ألمانيا لم ينسَ معاناة مرضى السرطان، ونشط مع عشرات الأطباء اليمنيين لتشكيل "اتحاد الأطباء اليمنيين -الألمان"، وهو كيان سعى بشكل طوعي إلى توفير مساعدات طبية للمستشفيات اليمنية.

من جملة ما فعله هذا الاتحاد المساهمة في جمع تبرعات لشراء جهاز لمصلحة مركز الأورام في تعز، ووفَّر قرابة 50 ألف دولار.

سيضطر الدكتور هلال إلى توجيه مناشدة لفاعلي الخير ورجال الأعمال في تعز لشراء جهاز "المامو جرام" بعد تعثر المحاولة الأولى عبر الاتحاد.

بسبب عدم توفّر هذا الجهاز المختص بتشخيص المرض، تموت حالات عديدة، ويتكبّد الآلاف عناء السفر إلى الخارج للكشف عن السرطان.

تبلغ كلفة الجهاز 131 ألف دولار، وهو مبلغ تافه إذا ما استحضرنا هيلمان البيوت التجارية الكثيرة (عدداً ورأسمالا) في تعز، ومسؤولي الرئاسة والحكومة وملايين الناشطين والوعاظ الذين يصنعون الجلبة حتى أقاصي العالم من أجل صورة!

الكل غير مكترت، والكل يظهر نفسه في حالة عجز أمام مرض قاتل، يفتك بأرواح الآلاف بلا رحمة، والكل منصرف إلى معاركه!

المشكلة أننا سنكتشف بعد أشهر أن هذا المبلغ المطلوب لشراء الجهاز لا يساوي شيئاً في نظر جهابذة النَّهب والفساد في المحافظة، ويمكن حيازته في رمشة عين.

وهو أقل من المبلغ الذي قررته هيئة "تحكيم" في فضيحة فساد ضخمة لنفسها مقابل الاحتيال؛ لتسليم تعويضات لشركة مقاولات في قضية مشروع كلية الطب بجامعة تعز المتعثّر.

في تفاصيل الفضيحة ستكتشف أن محافظ تعز، الذي لم يبذل جهداً بسيطاً لتلبية نداء المرضى، كان يمضي مراسلاته بصفة مستعجلة لتمرير صفقة التحكيم، تحت مبرر "السرعة لاستئناف العمل في مشروع كلية الطب".

ستبدو السلطة المحلية، التي أظهرت عجزها في كل ما يتعلق بخدمة الناس وحياتهم وصحتهم، في حالة استنفار من أجل شركة مقاولات تأسست بالتطفل على المال العام، كما الحكومة أيضاً.

كما سيبدو رئيس أهم صرح علمي في المحافظة مهموماً بكيف يستطيع إلجام أي صوت معارض لصفقة تبديد المال العام، واستغلال وظيفته لتمرير تعويض بأكثر من 20 مليون دولار لمصلحة شركة صديقه ضد الجامعة، التي يرأسها.

وسيكون على المحافظ السابق، أمين محمود، الانتقام من تعز، لمنح صهره ما لا يستحق بل والتغطية على فشل الشركة في إنجاز المشروع، الذي كان يوماً جزءاً من مسؤولياته!

أما القصة القصيرة للفضيحة فهي على النحو التالي:

حصلت شركة "الرحاب"، المملوكة للوزير الأسبق، أحمد صوفان، على عقد إنشاء مباني كلية الطب في جامعة تعز، الممول من قرض سعودي بنسبة 49%، في الأشهر الأخيرة من حكم صالح.

ينص العقد على تسليم مباني الكلية، في 20 فبراير 2015، أي قبل الحرب بأكثر من شهر، وكانت الشركة قد أوقفت الأعمال، مطلع يوليو 2014، بلا سبب.

تسلمت الشركة مستحقاتها كافة مع الزيادة (مبلغ يتجاوز 21 مليون دولار)، لكن نسبة الإنجاز في أعمال المشروع لم تتجاوز 70 في المئة، وفقاً لتقرير الخبير الفني.

التوقف وعدم الإنجاز والتلاعب بمواصفات الأشغال يوجب إيقاع الشروط الجزائية، وتغريم الشركة بقيمة تتجاوز 4 ملايين دولار، بحسب تقرير خبير فني، رمت هيئة التحكيم  بتقريره إلى المزبلة.

ما حدث العكس: ستنشط الشركة بتسهيلات من مسؤولين ومحسوبيات للحصول على التعويض!

مثلت الحرب فرصة "جيدة" للشركة للتخلص من الركود، وإعادة بناء مركزها، وسيكون على تعز أن تتحمّل طموحات صوفان للعودة إلى سوق المنافسة!

سيعرض البرنامج السعودي استئناف أعمال المشروع، لكنه سيشترط تسوية الأمر أولاً مع الشركة المنفذة، وسيقرر بلغة حازمة: أي تعويضات تدعيها الشركة لسنا مسؤولين عنها، وهي مسؤولية الحكومة والجامعة.

قيادة السلطة المحلية في تعز، ورئيس الجامعة والمحافظ السابق لم يلحظوا أبدا مناشدات الدكتور هلال شراء جهاز "الماموجرام" لمساعدة مرضى السرطان على الكشف المبكر عن المرض.

وحده أحمد صوفان تمكَّن من استنفارهم، أيقظهم لمواجهة مرضه، وتلبية احتياجات إنعاش شركته!

سيعمل الجميع بطاقة استثنائية: المحافظ يسارع للتعجيل بتلبية رغبة الشركة بالتحكيم، وهي تطالب ب22 مليون دولار تعويضات.

بمعنى أنها تطالب بقيمة مشروع آخر أكبر من قيمة المشروع الأصلي، الذي قبضت مستحقاته، ولم تنجزه!

المحافظ السابق سيضع نفسه تحت طلب صهره (عديله) لرئاسة هيئة التحكيم، رئيس الجامعة سيستخدم مختلف سلطاته لتمرير التحكيم بسلام، وإخراس صوت الإدارة القانونية في الجامعة المعترض.

مجموعة جلسات عبر "واتس آب"، ودون النظر في كل طلبات ممثل الجامعة، تقرر هيئة التحكيم منح الشركة قرابة 16 مليونا و200 ألف دولار!

كما منحت الهيئة نفسها أكثر من 165 ألف دولار أتعاب التحكيم!

لا تفهموا هذه الحماسة خطأ، هناك رغبة "تنموية مُلحة" لخدمة تعز، من أجل استئناف إنجاز مشروع كلية الطب على يد الشركة نفسها، وهم لا يريدون تفويت الكرم السعودي، وهو بالمناسبة جزء من قرض!

لقد حصل صوفان على 4 ملايين دولار "بقدرة قادر"، كما تقول آخر المعلومات، لم يناقشه أحد ماذا فعلت شركته وما أنجزت، وهو يسعى للحصول على التعويض الباقي!

إذا ما افترضنا ان استكمال المشروع سيكلِّف الحكومة بضعة ملايين من الدولارات؛ باعتبار أن المنجز منه 70 في المئة، فإن الحكومة ستدفع أضعاف المبلغ تعويضاً لصوفان لكي لا تخسر الفرصة السعودية!

أما إذا خصصت الحكومة لبناء مركز نموذجي لمكافحة السرطان، فستوفّر ملايين الدولارات سنوياً على اليمنيين. لكن من قال إن "هذا مهم لتفكير رجال العصابات هذا؟".
 
هذه القضية ستمر ككل قضايا الفساد، لن تصبح "تريند"، ولن يلتفت إليها السياسيون، ولا الناشطون، مثلما لم يلتفت أحد إلى مناشدات الطبيب النبيل هلال.

كل ما يمس حياة الناس غير مهم!

دعكم من هذه القضايا "التافهة"، هذه "السرطانات" لا تقتلنا.

هل لديكم يا سادة ما ينفع لتزجية وقت تعز وناشطيها وسياسيها: صورة "اختلاط"  مثلاً بتعبير الواعظ العديني "حارس أخلاق المدينة"، أو خطبة جمعة للعديني "المريضة نفسه" بتفاهات الناشطين؟

مقالات

أبو الروتي ( 10)

في أول يومٍ أذهبُ فيه إلى المدرسة (المعهد العلمي الإسلامي).. وفيما كنتُ أعبرُ بجوار السوق المركزي، وانعطفُ يساراً باتجاه "مدرسة السّيْلة" الابتدائية، شاهدت خمسة أطفالٍ شياطين يخرجون من الشارع الموازي للسوق المركزي؛ أربعة منهم بنفس عمري، وخامسهم أكبر مني، ومن أصحابه الأربعة، وكانوا جميعهم يشترون الرّوتي من فُرن الحاج، ويرونني هناك، لكن كبيرهم كان أول من لفت انتباههم إلى وجودي، وأول من صاح قائلا، وهو يشير إليَّ:

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.