مقالات

شاعر العصرين.. بشار

26/02/2025, 13:00:00

تبدَّى بشار بن برد عصارةَ عصرين من الشعر والحروب والنطاح السياسي، وكانت نشأته في أحسن الفترات، لأنها كانت إبان تداعي الدولة الأموية، وقبل وصول العباسيين إلى الحكم. افتتح الشعر بالهجاء، معجبًا بنقائض جرير والفرزدق، فتعرض لجرير، فانف أن يرد عليه أو يوهمه بأنه سمعه، على طريقة الأقدم تجربة في الفنون، إلا أن بشار تمادى في الشعر، ميالًا بشدة إلى الهجاء، فكان الذين يهجوهم يشكونه إلى أبيه، فيعاقبه بالضرب حينًا، وبالتعنيف حينًا آخر.

كان أبوه خزّافًا، يعجن الطين أيامًا، ويصنع الجرار أيامًا أخرى، وكانت هذه المهنة شحيحة الدخل على بيت كثير الأفواه، فقير الموارد. تناول بشار أحد التجار بالهجاء، ولما عرف التاجر بيت والد بشار، أقبل إليهم، فظنوه شاكياً، فإذا به يعطيهم ثلاثين ألف درهم، فقال أبو بشار: “لقد أكسبنا شعرك في يوم أكثر مما تدره علينا الخزافة في سنة!” فتغاضى عنه.

كان بشار، إلى جانب مزاولة الشعر، يتردد على حلقات الشيوخ والرواة، وكان في شبابه حادَّ النقد على الشيوخ وطريقة تفاسيرهم، حتى أُعجب بشيخين: الحسن البصري وواصل بن عطاء. كان الحسن البصري يناديه: “قل يا أبا معاذ، ماذا قلنا بالأمس في مسألة الكُحل والجرح والتعديل؟” فيسرد بشار جملة الفصل كفاتحة الكتاب. أما واصل بن عطاء، فقد نشأت بينه وبين بشار جفوة منذ البداية، رغم أن بشار كان أصلح تلاميذ ابن عطاء للدعوة الاعتزالية، التي بدأ واصل يرفعها. كان أتباع تلك الدعوة من ذوي النجابة في التلمذة وسعة المحصول العلمي، إلا أن واصل قال بصراحة:

“لا أرى في هذا المرعث خيرًا، وأكاد أشم رائحة زندقته من بيتيه اللذين أنشدهما أمس:”

إبليسُ أفضلُ من أبيكم آدمًا

فتقضَّوا يا معشرَ الأشرارِ

النارُ عنصرُه وآدمُ طينةٌ

والطينُ لا يسمو سموَّ النارِ

وهذا رأي غريب إذا صحّ عن واصل بن عطاء، لأن بيتي بشار مستمدان من آيات قرآنية تصف نارية إبليس وطينية آدم. لكن هناك أسبابًا، لم تُلمَس بعد، للخلاف بين المعتزلة والفلاسفة الفرس، إذ كان المذهب الفارسي مكوّنًا من مذهبين: المزدكية والماذوية، وكان أهل الاعتزال ملمين بهما، فخاف بشار وأمثاله من قوة حجة المعتزلة وقدرتهم على إفحام “المزدكي” بالمنطق. إذ إن المزدكية والمانوية لم تتطور أعقابها كالأفلاطونية والسقراطية، فكان بشار لا يسمي واصلًا إلا “بالغزال”، خاصة في الهجاء المذهبي، كما قال:

ماذا منيتُ بغزالٍ لهُ عنقٌ

كنَقنَقِ الدَّوِّ إن ولَّى وإن مثُلا

عنقُ الزرافةِ ما بالي وبالَكمُ

تكفرون رجالًا كفروا رجلًا

وكان هجاؤه على هذا النمط، مستندًا إلى ثقافته بمعائب الناس ومحاسنهم، وكان يعلل بخل البخيل، كما في قوله:

وللبخيلِ على أموالهِ عللٌ.. زُرقُ العيونِ عليها أوجهٌ سودُ

الغزل عند بشار

كان غزله آسراً فاتناً، حتى أن شيخ الزهاد مالك بن دينار قال: “ما رأيت أفسد لربّات الحجال من شعر بشار بن برد!”. وكان غزله على نهجين: أحدهما تقليد ابن أبي ربيعة، والآخر مستمد من خصوصياته ومعارفه بطوايا النساء. قالت له إحداهن يومًا: “لماذا يحبك الناس رغم قبحك يا بشار؟” فأجابها: “ليس من حسنه يُهاب الأسد!”

وفي موقف آخر، وقف عليه سربٌ من الفتيات يسألنه: “هل تحب لو أننا بناتك يا أبا معاذ؟” فقال: “نعم، وأنا على دين كسرى!”، في إشارة إلى المعتقدات الفارسية القديمة التي تجيز للأب الزواج من ابنته تحت اسم “الغرس”، لمن ربّاه وتعهده وسقاه.

كان له ثلاثة إخوة يعملون في الجزارة، وكانوا يخرجون من البيت مبكرين، فيلبسون ثيابه وهو نائم، فلا يجد غير ما تركوه له. وإذا لامه الناس على مظهره، كان يقول: “هذا ما وقعت عليه اليد!”، وإذا عيّروه برائحته، أجابهم مازحًا: “هذه ضريبة صلة الرحم!”، في إشارة إلى برّه بإخوته وسكوته عن تصرفهم. وكان وصولًا للأرحام ولذوي القربى، بدليل رثائه لأحد إخوته وأحد أولاده.

بشار والدهاء السياسي

قال الأصمعي: “لاقَيتُ أولَ مرةٍ في زماننا شعرًا يصحُّ أن يُسمَّى، والله لقد فاقت ميمية بشار ميميتين لجرير والفرزدق!”.

كانت ميمية بشار معدة لمدح أبي مسلم الخراساني عند انتصاره على أبي جعفر المنصور، ليهنئه بتولي الحكم. ولكن حين انعكست الآية وانتصر المنصور وسقط أبو مسلم، غيَّر بشار في المطلع فقط، فجعلها صالحة للمنتصر!

كان مطلعها الأصلي:

“أبا مسلمٍ، ما طولُ عيشٍ بدائمٍ…”

فاستبدله بـ: “أبا جعفرٍ، ما طولُ عيشٍ بدائمٍ…”

وجاءت الأبيات كما يلي:

أبا جعفرٍ، ما طولُ عيشٍ بدائمٍ

ولا سالمٌ عمّا قريبٍ بسالمِ

على الملكِ الجبّارِ يقتحمُ الرّدى

ويصرعُه في المأزقِ المتلاحمِ

تقسمُ كسرى رهطَه بسيوفِهم

وأمسى أبو العباسِ أحلامَ نائمِ

وواصل عرض آرائه السياسية حول الحاكم الحازم في نفس القصيدة، قائلًا:

إذا بلغَ الأمرُ المشورةَ فاستعنْ

برأيِ نصيحٍ أو بصيرةِ عالمِ

ولا تجعلِ الشورى عليكَ غضاضةً

فإنَّ الخوافي قوةٌ للقوادمِ

ختامًا… شاعر لا يعرف الحدود

لقد كان بشار بن برد أيقونةً شعريةً وسياسيةً واجتماعيةً، مزجت بين الذكاء اللغوي والجرأة الفكرية. أزعج شيوخ الدين، ودوّخ الفلاسفة، وراوغ الساسة، وسخر من المجتمع… ومع ذلك، ظل لسانه أسرع من سيوف خصومه، وأبقته أشعاره خالدًا في ذاكرة الأدب العربي.

مقالات

المكارثية الجديدة: حين تصبح مناصرة فلسطين تهمة

في الخمسينات من القرن الماضي، عاش الأمريكيون في ظل حملة قمع سياسي شرسة عُرفت باسم "المكارثية"، حيث طاردت السلطات كل من اشتُبه في تعاطفه مع الشيوعية، وزُجّ بالكثيرين في السجون، أو فقدوا وظائفهم لمجرد آرائهم السياسية.

مقالات

تبرّعوا.. وراقبوا!

وسط دوامة الموت المجاني التي تطوِّق اليمنيين، يتقدّم السرطان كوحش لا يتوقّف عن التهام حياة عشرات الآلاف سنوياً، لا يفرِّق بين رجل وامرأة، شيخ مسن أو طفل.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.