مقالات

صالح والصورة التي باعت الوهم لليمنيين في سبتمبر (2/2)

17/11/2025, 15:23:34
بقلم : فهمي محمد

في المجتمعات الأكثر تقليديةً، تكون معركة الوعي السياسي والفكري أبطأ وأقل تأثيرًا في مخرجاتها العملية، وفي المقابل تكون الصورة الإعلامية هي الأكثر تأثيرًا على ثقافة العوام.

 لذلك نجد العديدَ ممن حولنا، حتى بعض المثقفين والسياسيين، يتغنون اليوم بصورة العروض العسكرية التي كانت في عهد صالح، وأكثر من ذلك، لسان حالهم يقول: هذا هو جيش اليمن الذي بناه صالح، ثم جاءت ثورة الشباب لتدمره! إنها جدلية الصورة والجوهر في اليمن.

لكن السؤال الأكثر إيلامًا وجوهريةً يقول: كيف لمليشيا كهنوتية أن تنجح في الانقلاب وتسيطر على العاصمة صنعاء، إذا كان صالح قد بنى جيشًا وطنيًا يستحق الثناء والندم عليه في الوقت الحاضر؟ وهل كان هذا الجيش "العظيم" موجودًا حقًا في فترة حكمه؟ ولماذا غاب دوره عندما كانت الدولة تنهار بكل مؤسساتها أمام جماعة طائفية تحركت من صعدة بـ"الكلاشينكوف" واستولت على معسكراته وسلاحه وعلى السلطة؟

الحقيقة المرة التي تكشف وراء هذا التناقض الصارخ توضح أن ما كان يُصوَّر لنا على أنه "جيش وطني" لم يكن سوى وهمٍ كبير. فالجيش الحقيقي، المتجذر في عقيدة الوطن والدولة، لا ينهار بين ليلة وضحاها بمجرد تغيير بعض قياداته، ولا يسلم دباباته وثكناته العسكرية لمليشيات طائفية قادمة من خارج السلطة، كما حصل في اليمن بشكل لم يشهد له التاريخ مثيلاً في العالم.

التاريخ يعلمنا أن الجيوش الوطنية هي من تقوم بالانقلابات العسكرية على الحكام والسياسيين عندما يصلون إلى طريق مسدود في صراعاتهم السياسية، لا أن تذوب كالملح في الماء أمام انقلاب مليشيات قدمت وهي تحمل أحقاد التاريخ وأيديولوجيات مذهبية مناقضة لمفهوم الوطن والدولة. فالجيش المصري، على سبيل المثال، حافظ على تماسكه مؤسسيًا رغم تغيير قياداته بعد 2011، وكذلك الجيش في تونس، لأنه مؤسسة قائمة على العقيدة الوطنية وليس الولاء الشخصي.

استنادًا إلى مخيلات الصورة التي ما تزال بعض القنوات الفضائية تبثها اليوم للجيش اليمني في عهد صالح، يروج البعض - وللأسف الشديد حتى بعض المثقفين - لرواية مفادها أن صالح سلم السلطة والجيش للرئيس عبد ربه منصور هادي، وأن هذا الأخير هو من قام بتفكيك الجيش تحت مسمى "الهيكلة". لكن هذه مغالطة خطيرة تتجاهل سؤالًا محورياً يقول: هل يمكن لجيش وطني حقيقي أن يكون سلعة قابلة للتسليم والتسلم والتفتيت؟

الجواب يكمن في ما حدث على الأرض اليمنية في عام 2014م مع انقلاب الحركة الحوثية: الحقيقة أن مؤسسة الجيش لم تتفتت بالمفهوم التدميري كما يروج البعض، بل سلمت الوحدات العسكرية أسلحتها وثكناتها للحوثيين بسلاسة مذهلة. على سبيل المثال، لواء العمالقة بقيادة العميد محمد الرشيدي في الحديدة، ولواء صافر في صعدة، ولواء الاحتياطي في عمران، والحرس الجمهوري في صنعاء، سلموا أسلحتهم ومعداتهم الثقيلة للحوثيين دون قتال يذكر. حتى الإعلام الحوثي نفسه بدأ يتحدث عن "دور الجيش واللجان الشعبية" في معاركهم، مقدمًا كلمة "الجيش" على "اللجان الشعبية"، مما يؤكد أن أجزاء كبيرة من الجيش تحركت كبنية جهوية في خدمة الحركة الحوثية منذ البداية.

التحليل العميق الذي يتجاوز ذهنية الصورة الاستعراضية إلى حقيقة الجوهر يشير إلى أن اليمن لم يكن يملك جيشًا احترافيًا بالمعنى الحقيقي، بل كان يمتلك مجموعة من المعسكرات والألوية المتفرقة، بُنيت على ولاءات قبلية وجهوية وشخصية عبر عقود من الزمن. لقد كان ما يُسمى بالجيش اليمني عبارة عن إقطاعيات عسكرية تقاسمها شخصان تحولا لاحقًا إلى خصوم: الرئيس صالح من جهة، والفريق علي محسن الأحمر من جهة أخرى. فصالح سيطر على الحرس الجمهوري وقوات الصواريخ والطيران واللواء الأول مدرع، بينما سيطر الأحمر على الفرقة الأولى مدرع ولواء عاطف، مما خلق جيشًا ثنائي التكوين والقيادة في اليمن.

غير أن هناك جامعًا ظل مشتركًا بين هذه الإقطاعيات العسكرية التي تأسست في شمال اليمن بشكل ثنائي، لم يكن هذا الجامع المشترك الولاء لليمن أو الوطن، بل هو الولاء للجهوية السياسية التي تأسست منذ انقلاب 5 نوفمبر 1967م، وتحولت مع صالح والأحمر إلى عصبية سياسية داخل الجيش اليمني. فالجيش في أحسن أحواله كان مجرد كتائب ومعسكرات بشرية وأسلحة قابلة للتوظيف السياسي ضد ثنائيته العسكرية عندما يتعلق الأمر بمستقبل السلطة في حسابات صالح وعلي محسن الأحمر، وضد المشروعات الوطنية عندما يتعلق الأمر بمستقبل اليمن في حسابات اليمنيين وكفاحهم.

وإذا كان تسريح الجيش الجنوبي بعد حرب صيف 1994 يعد دليلاً على جهوية الجيش في ظل سلطة صالح - حيث تم تسريح ما يزيد عن 50,000 عسكري من أبناء الجنوب وإقصاء قادتهم - فإن الانقلابات المتكررة على دولة إبراهيم الحمدي في 1977م، ثم على دولة الوحدة في 1994م، وأخيرًا على الدولة الوطنية في 2014م، تعد أدلة صارخة على انفصال عقيدة الجيش اليمني عن مفهوم الدولة الوطنية الديمقراطية.

عندما اندلعت شرارة الثورة في 2011 وتم إزاحة صالح، ظهر الخلل البنيوي الكامن في تكوين هذه المؤسسة. فالجيش الذي تربى على الولاءات الشخصية والجهوية لم يكن مؤهلاً للوقوف كحصن منيع في معركة الدفاع عن فكرة الدولة وعن الثورة والجمهورية. وعندما بدأ زحف المليشيات من صعدة نحو صنعاء، لم يكن يملك عقيدة قتالية وطنية تحركه، سوى عقيدة السلطة نفسها التي تحالفت مع الانقلاب ضد مشروع الدولة الاتحادية.

حتى علي محسن الأحمر الذي أعلن انضمامه إلى صف الثورة، (ولم ينتقل إليها بالمفهوم السياسي والعسكري)، برغم قتاله ضد الحوثيين، لم يكن في حقيقة تكوينه السياسي والثقافي مؤهلاً للقيام بدور وطني ينتصر لمشروع الدولة الديمقراطية. فتحالفات الرجل وتاريخه وأيديولوجيته تجعله دائمًا في معركة الدولة الوطنية الديمقراطية جزءًا من المشكلة وليس الحل.

على هذا الأساس، كانت النتيجة حتمًا مأساوية على اليمنيين: تحول جيش صالح - أو ما كان يُفترض أن يكون جيشًا وطنيًا - من حامٍ للدولة والانتقال السياسي إلى أداة طيعة في يد قوى انقلابية. سلم الجيش ترسانته العسكرية التي قُدِّرت بأكثر من 70% من ترسانة الجيش اليمني، بما في ذلك مئات الدبابات والمدرعات والمدفعيات والمنظومات الصاروخية، للحركة الحوثية (قوى ظلامية)، وهو اليوم يعيد رسم صورته التراجيدية في ميدان السبعين بعيدًا عن مفهوم الوطن: عروض عسكرية، ولكن في ظل الولاء للسيد عبد الملك الحوثي وليس لصالح.

في الختام، هذه المقالة ليست مجرد سردية تاريخية للأحداث في اليمن، بل درس قاسٍ في الحقيقة القائلة إن الجيوش الوطنية لا يُقاس وجودها بالعروض العسكرية ولا تُبنى بالدبابات والطائرات وحسب، بل تُبنى في المقام الأول بالعقيدة الوطنية والولاء للوطن والشعب، وليس للأشخاص الذين يقفون على رأسها.

اليمن اليوم يدفع ثمن عقود من التأسيس الخاطئ - واللاوطني - لمؤسسة كانت - في أحسن أحوالها - مجرد واجهة عسكرية مبهرة، لكنها تهاوت عند أول اختبار حقيقي في مدرسة الوطنية. فهل يعي القائمون اليوم على السلاح والمعسكرات في المناطق المحررة من سلطة الحوثيين، ماذا يعني بناء جيش وطني؟ وما هو الهدف من وجوده في اليمن بعد ثلاث ثورات ووحدة وحروب وتضحيات وثمن تجاوزت العقل والمنطق؟

مقالات

يسلم باسعيد: صوت الرحيل ودموع المسافر في "سُلّم الطائرة"

كتب الشعر كما تُكتب المنافي على الأرواح؛ كتب الحب كما يكتبه العابر خائفًا من أن تتساقط منه بقية قلبه، وكتب الأغنية كمن يخطّ صوته على زجاج الريح. على متن الطائرة وُلدت أغنية "سُلّم الطائرة"؛ لم تُشغله الغيوم المعلقة فوق الوجود، ولم يفتنه اتساع النوافذ، فقد كان غارقًا في تلك الدموع التي باغتته وهو يصعد السُلّم، دموعٌ تشبه احتجاج القلب على قدره، وتشبه الوصايا الأخيرة للمسافر حين يودّع ظلاله.

مقالات

قراءة مكملة لمقال الدكتور ياسين سعيد نعمان “مكر التاريخ”

لا يستطيع قارئ منصف تجاهل القيمة التحليلية العالية التي حملها المقال الأخير للدكتور ياسين سعيد نعمان، ولا عمق تجربته السياسية الممتدة التي تشكّل رصيدًا نضاليًا لا يُستهان به. فالرجل يتحدث من موقع الشاهد والفاعل، ومن زاوية ترى المشهد اليمني بقدر من الهدوء والخبرة قلّ أن تتوفر اليوم في خضم الصخب الدائر.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.