مقالات

صنعاء تُقصف والحوثي يزداد تضخما..!

22/04/2025, 16:00:10

على مرِّ التاريخ، لا يصبح العبث سياسة، والموت برنامج حكم، ولا تتحوّل الجغرافيا إلى ساحة تجريب لخيالٍ دموي فقد اتصاله بكل معنى إلا في لحظةٍ ما من تاريخ الخراب.

الحوثي لا يحكم اليمن، بل يعيد خلقها على صورته: أرضٌ بلا ملامح، بشرٌ بلا إرادة، وقتٌ بلا زمن. كل شيء عنده يتآكل من الداخل: الوطن، الدِّين، اللغة، حتى مفهوم الحياة ذاته.

ما يفعله الحوثي في اليمن تمرين على استئصال الوعي، وإلغاء المعنى من العالم. لقد تفوّق على الكارثة؛ لأنه لم يعد يمثلها فحسب، بل يصنعها بوعي، ويُتقن هندسة تفاصيلها. يعلن الحرب باسم السلام، ويستدعي الطائرات الأمريكية تحت لافتة "الموت لأمريكا"، يلوّح بفلسطين وهو يدك صنعاء، يعلن الجهاد وهو يزجّ الأطفال في جبهات لا يعرفون لماذا يُقتلون فيها.

أن تستفيق على خبر قصف صنعاء أمر يجعلك أن تسأل سؤالًا وجوديًا: كيف يمكن لحركة تزعم الدِّفاع عن الأرض أن تبارك دكّ سماء المدينة بالصواريخ؟ كيف يمكن لمن ينادي بتحرير القدس أن يستدعي أمريكا إلى قلب اليمن، وكأننا لسنا شعبًا بل حقل اختبار..؟!

إنّ صنعاء الآن ليست فقط مدينة تُقصف، انها فكرة تُهدم، ذاكرة تُستهدف، حضارة تُفكّك على مهل. الحرب هنا ليست بين طرفين، بل بين المعنى والفراغ، بين من يريد للناس أن يعيشوا، ومن يرى في حياتهم تهديدًا لاستمراره.

بالأمس، كان صديقي يحدثني من جامعة صنعاء، لكنه لم يكن يتكلم كطالب، بل كمن يعيش على تخوم الفقد. قال لي: لم نعد طلابًا، بل مشاريع جنائز مؤجلة. يُطلب من كل دكتور أن يتعمد رسوبنا، فقط كي يؤخذ منّا ما تبقى من أعمارنا مقابل عشر درجات. أصبح النّجاح يُمنح لمن يختار البندقية، لا القلم. صارت الجامعة بوابة عبور إلى الجبهة، لا إلى المستقبل. وهذا ما يفعله الحوثي ببراعة: يُصادر المستقبل، ثم يُقدّمه للناس في نعوش.

لم يعد معنى لليمن إذ صار الطالب جنديًا، والعالِم أداة تعبئة، والجامعة ساحة فرز للحرب. ولا يوجد أي معنى باقٍ للحياة؛ لأن الموت صار هو العملة الوحيدة للتعامل مع هذه الجماعة، إنها تقتل الناس فقط، بل تقتل قدرتهم على الإحساس بأنهم أحياء، تجفف الذاكرة، وتزرع في الروح قناعة بأن الألم طبيعي، والموت ضرورة.

الخطر الأكبر لا يكمن في القصف، وإنما في التكيُّف معه؛ لأن الغارة عندما تصبح خبرًا عاديًا، والدَّم مشهدًا متكررًا، والموت مجرد رقم في شريط الأخبار، فإننا لا نخسر أرواحنا فقط، بل نخسر قدرتنا على الغضب، على الرَّفض، على البكاء. نصبح كائنات ميِّتة تسير على قدميها، تستهلك الخوف كما تستهلك الخبز، وتغسل وجوهها في الصباح بماء اللامبالاة.

إن ما يحدث اختطافٌ للزّمن.. الحوثي يُخرِج اليمن من سياقها التاريخي، ويُلقي بها في دوامة لا قاع لها. لا يعترف بالدَّولة، لكنه يتحدّث باسمها. لا يؤمن بالعِلم، لكنّه يحتله، لا يحترم الإنسان، لكنه يتاجر به. وكل ذلك يُمرّر تحت لافتات كبيرة: "الإيمان"، "الحرية"، "الكرامة"، في حين أن الواقع لا يشي إلا بعكس ذلك تمامًا.

لا بُد من كتابة تفضح، من صرخة تخرق هذا الصمت المتواطئ في وجه هذا الانهيار الوجودي. لا يكفي أن نرثي صنعاء، بل يجب أن نُدافع عنها بالمعنى، أن نعيد بناءها في النَّص، في الحكاية، في الذّاكرة؛ لأنهم، إن نجحوا في تدمير الجدران، لا يجب أن نمنحهم رفاهية تدمير المعنى أيضًا.

صنعاء تُقصف، والناس يُساقون إلى الجبهات، والأمل يُباع مقابل عشر درجات. هذا ليس وطنًا، بل كابوس مشيّد بدقة. ومع ذلك، لا يجب أن نعتاد؛ لأن التعود على الشر هو بداية النهاية، وهو انتصار العبث علينا دون طلقة واحدة.

كنا ننتظر تحرّكًا استثنائيًا من الجيش الوطني، أو ما تبقى منه، انقلابًا يعيد توجيه البوصلة، ترتيبًا للصفوف، إشارة تدل على وجود إرادة حقيقية داخل "الشرعية" لاستعادة القرار اليمني، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث. بدا المشهد وكأنَّ جميع الأطراف المناهضة للحوثي قد تكلّست تمامًا، عاجزة عن تحويل الضربات الأمريكية إلى ورقة إستراتيجية في معركة استعادة الدَّولة.

الأدهى أن هذه الأطراف، وفي مقدِّمتها السلطة الشرعية المعترف بها دوليًا، تواصل الارتهان الكامل لإملاءات الخارج، دون أن تحرّك ساكنًا في لحظة فارقة قد تعيد صياغة المعادلة اليمنية بأكملها. إنها شرعية فقدت حتى قدرتها على المبادرة، تُدار من بعيد، وتعمل كوكيل لا يجرؤ على تجاوز خطوط المموِّلين.

في هذا الفراغ السياسي والأخلاقي، تمكّن الحوثي من استثمار اللحظة ببراعة. أعاد تقديم نفسه كقوة تواجه "الاستعمار الأمريكي"، ونجح في تجديد سرديته الدِّعائية، خاصة في المناطق التي يسيطر عليها بالقوَّة. هناك، حيث الوعي مقيّد بالخوف، بات يُنظر إليه كمقاوم، لا كقاتل. فالضربة الأمريكية، رغم رمزيّتها، منحت جماعة الحوثي ما لم تمنحه لها سنوات الحرب: شرعية رمزية عابرة للحدود.

لقد انتقل الحوثي، بخطاب مدروس، من مليشيا طائفية متمرِّدة إلى "قوة مقاومة" في أذهان فئات واسعة، مستفيدًا من حالة الغضب العربي تجاه السياسات الأمريكية، ومن تعاطف شعبي عارم مع غزَّة. وفي المقابل، بقيت "الشرعية" خارج سياق المعركة، تفتقر لأي رؤية إعلامية، أو خطاب تعبوي، يستعيد بها زمام المبادرة، أو يكشف زيف الخطاب الحوثي.

النتيجة؟ فراغ قاتل. لا نصر هنا ولا هناك. الجماهير تبحث عن طرف واحد فقط يحمل مشروعًا جادًا، يتحرّك بإرادة وطنية حقيقية. لكنها لا تجد سوى كيانات هزيلة، متناحرة، تتقاذف الخطاب وتخشى الفعل. الجميع يتربص بالآخر، ولا أحد يتقدّم. الشرعية تقف متفرّجة، كمن ينتظر نتائج مباراة لا يُشارك فيها.

نحن نفتقد الانتصار، نفتقد الشعور بلذّته، ببهجة تحقق حلمٍ طال انتظاره. في لحظة تاريخية كهذه، يتطلع اليمنيون لأي طرف يتحرّك، لأي قُوة تكسر الجمود وتشق طريق الأمل. الجماهير مستعدة للالتحام خلف أي مشروع وطني يتقدَّم، شرط أن يكون صادقًا وجريئًا. لكن المُعضلة أن كل الأطراف المناهضة للحوثي تبدو هزيلة، كأنَّها تراقب المشهد من خلف الزّجاج، تتشفى بخسائر بعضها، وتكتفي بالبكاء على الرَّماد.

أما دول الجوار، فهي لا ترى في اليمن سوى حقل ألغام لمصالحها؛ يهمها الأمن، والاستثمارات، والسياحة، والمناسبات الكُبرى ككأس العالم، أكثر مما يهمها مصير شعب يُسحق يوميًا. عُقدة الخوف من عودة أي قوى لا تخضع كليًا لإملاءاتها ما زالت تحكم سلوكها، وتكبِّل قراراتها، فتُبقي اليمن في قبضة الجمود، وتُسهم، بشكل أو بآخر، في إطالة أمد الانهيار.

المأساة اليمنية اليوم لا تكمن فقط في استقواء الحوثي، بل في الفراغ العميق الذي تتركه الشرعية أينما حلَّت. لقد فشلت في أن تكون مشروع دولة، وتحوَّلت إلى هيكل هشّ، بلا إرادة سياسية، وبلا قدرة على إعادة تعريف ذاتها، أو اللحظة التاريخية التي تمر بها البلاد. هذه لحظة فارقة، كان يمكن فيها للشرعية أن تستثمر الضربات الأمريكية لبناء سردية وطنية مضادة، ترتكز على أحقية مقاومة الحوثي لا فقط باعتباره انقلابيًا، بل كخطر وجودي على اليمن نفسه؛ لكن الشرعية، كما في كل منعطف، كانت الغائب الأكبر.

الشرعية تعاني من قصور بنيوي في الرؤية والقرار. فبدل أن تقود، تُقاد؛ وبدل أن تصوغ موقفًا، تترقّب ما تمليه العواصم. هذا الغياب عن الفعل لا يملأه الحوثي بقوَّته، بل يملأه بسردية مُضلّلة يروّجها كشكل من أشكال "المقاومة"، وهي سردية تجد رواجًا في بيئات اجتماعية مسحوقة، تواقة لأي معنى يعيد لها إحساسًا زائفًا بالكرامة. الضربات الأمريكية، بدل أن تكسر هذه السردية، منحتها شرعية مضاعفة في أوساط واسعة، لاسيما تلك التي تتماهى مع خطاب المقاومة الرمزي.

لقد انكسرت ثقة اليمنيين بكل القوى السياسية المناهضة للحوثي، لا لأنهم ينتظرون الخلاص من السماء، بل لأن من يفترض بهم تمثيلهم على الأرض عاجزون حتى عن تمثيل أنفسهم. ثمة شلل في الإرادة، وخوف من اتخاذ القرار، وعجز عن الفعل، واغتراب تام عن نبض الشارع، وهذا ما جعل الحوثي يتفنن في اغتيال الأمل، لا فقط عبر السلاح، بل عبر ضرب المعنى، عبر سحق التطلعات، عبر اختطاف اللغة السياسية وتحويلها إلى أدوات لخدمة مشروعه اللاوطني.

الحوثي لا ينتصر لأنه بارع في الحرب، بل لأنه بارع في اغتيال المراحل. يسلب كل لحظة ثورية دلالتها، ويُصادر كل انتفاضة إمكاناتها، ويحوّل كل محاولة مقاومة إلى هزيمة جديدة؛ لأن الطرف الآخر، أي "الشرعية"، لا يملك مشروعًا مضادًا. وفي هذا السياق، لا يمكن أن ننتظر من الجماهير أن تثور، بينما كل الفصائل المناهضة للحوثي تلتقط صورها من خلف الستار، أو تشتبك في معارك هامشية، أو تنتظر الضوء الأخضر من الخارج.

ما لم يُعَدْ تعريف "الشرعية" بوصفها مشروعًا سياسيًا متجددًا، لا مجرد مؤسسة مُعترف بها دوليًا، فإن الحوثي سيظل يتضخَّم، لا بقوّته، بل بضعف خصومه. وما لم ينبثقْ مشروع وطني يحمل وجدان الناس، ويعيد الاعتبار لفكرة الوطن، فإن المأساة ستظل تتكرّر في دوَّامة عبثية، حيث يتم سحق الأمل في كل مرَّة، بالأدوات نفسها، وبالصمت نفسه.

مقالات

"كمران" أكثر من علامة تِبغ!

ربّما يعرف اليمنيون جميعاً "كمران" باعتبارها العلامة التجارية الأولى لأهم منتج محلي من التبغ، لكن ربّما يجهل الغالبية العظمى منهم أنها من أهم الجزر اليمنية على البحر الأحمر.

مقالات

لماذا تغيّرت سياسة الولايات المتحدة تجاه الأقليات الشيعية في المنطقة؟

في كتابه الدبلوماسية، أشار وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر (1923–2023)، الذي وُصف بثعلب السياسة الخارجية الأمريكية، إلى أهمية دعم الولايات المتحدة للأقليات في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الشيعة.

مقالات

أبو الرُّوتي (31)

بعد انتقالي إلى حي المنصورة، وفي أول يوم أذهب فيه إلى كلية "بلقيس"، حدث الموقف نفسه الذي حدث معي في 'كريتر' عند ذهابي إلى المعهد العلمي الإسلامي، مع الفارق أن الذين تعرضوا لي هذه المرَّة لم يكونوا طلبة

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.