مقالات

طارق صالح يلوم الناجين من قناصته

24/04/2025, 13:08:32

لم يكن مشهد القناصة وهم يقطفون المدنيين من أسطح الأبنية في تعز وعدن سوى الوجه الفاجر لتحالف صالح والحوثي.

وكان طارق صالح، آنذاك، أحد كبار مهندسي تلك الجرائم، يشرف من غرفة عمليات مشتركة على وحدات القنص والقمع، ويبتسم في نشرات الأخبار وحفلات تخريج القناصة، كقائد "يعيد للدولة هيبتها"، بينما كانت الدولة تُسحق تحت بيادته.

ثم قُتل علي عبد الله صالح، وانفرط عقد التحالف الذي صُنع من ركام الدولة، واختار طارق الفرار في لحظة أدرك فيها حجم الورطة. لم يغادر الحوثيين لأنه اكتشف فجأة أنهم انقلابيون، طائفيون، وذراع لإيران؛ بل لأنهم استغنوا عن خدمات العائلة.

وهكذا تحوّل من شريك هامشي في الانقلاب إلى شريك رئيسي في "الشرعية"، من دون فعل تطهير، ولا حتى اعتذار. فالذاكرة في بلادنا قصيرة، والدم سريع التبخّر!

اليوم، يتحدث طارق أمام مجموعة من قواته ليهاجم ضحاياه. يلومنا لأننا في الخارج؛ لأننا هربنا من الجحيم الذي كان هو أحد طهاة نيرانه، ويتحدث عن "من يدّعون أنهم نخبة"، وكأن النخبة تُعرف بعدد الجثث التي أُزهقت أرواحها، أو بمقدار القدرة على التملّق لسلطات الأمر الواقع!

نحن الذين هربنا من قناصيه، ودفنّا أصدقاءنا الذين سقطوا برصاص كتائبه، نتهم اليوم بالتنظير وبقلة الوطنية؛ لأننا لم نعد إلى وطن تبتلعه المليشيا ويديره جلّاد سابق من على كرسي رئاسي!

صرنا مدانين بالنجاة! وهذا اللوم على مجرد "النجاة" والفرار من الموت يكشف عن منطق مقلوب وغريب. فالنجاة ليست جريمة يُعاب عليها الإنسان؛ إنها غريزة أساسية وحقّ كفلته الشرائع والفطرة السليمة. الهجرة، خاصة هرباً من الظلم والخوف والبطش، هي سنة الأنبياء والمصلحين في مواجهة الطغاة. وقد سجّل القرآن الكريم على لسان موسى عليه السلام وهو يواجه فرعون: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.

لقد فررنا -يا طارق- ليس من مسؤوليتنا تجاه وطننا، بل من رصاص قناصيك، ومن سجونكم، ومن جحيم كنتَ واحداً من حاملي حطبه ومشعلي نيرانه.

"يلومنا على النجاة بدلًا من أن يعتذر لضحاياه"

المشكلة ليست في أن طارق لم يعتذر؛ فهذا ما كان متوقعًا، إذ إن الطغاة لا يعتذرون إلا على طريقة إيمان فرعون: إيمان اللحظة الأخيرة، حين يغمرهم الغرق، وتغيب عنهم كل سبل النجاة.

لكن المأساة الأعمق تكمن في أن أحدًا لم يسأله. لم يُفتح بحقه تحقيق، لا جادّ ولا هزلي، أمام أي جهة قضائية. كأنه شخص فوق القانون، أو كأن الدماء التي أُريقت بأوامره، والأرواح التي أُزهقت برصاص قناصته، كانت مجرد نقاط في لعبة "بوبجي"، أو خسائر في معركة خيالية!

هذا الصمت القضائي الفاضح يبعث برسالة مفزعة: لا عدالة، لا محاسبة، لا إنصاف في هذا الوطن الذي يأكل أبناءه ويكافئ جلاديه.

والأدهى من ذلك، أن هذا الصمت تمدد إلى الفضاء الإعلامي. لم تجرؤ وسيلة إعلامية واحدة -من تلك التي يُسمح لها بالعمل في المناطق "المحررة جزئيًا"- أن تسأله السؤال البديهي الذي ينام في أعين كل يمني، ويحترق كجمرة في قلوب آلاف الضحايا: "من قتل أطفال تعز؟،

من درّب وسلّح القناصة الذين استهدفوا المدنيين في عدن؟

من أدار غرفة عمليات الحرب على الدولة لحظة الانقلاب الحاسمة؟"

"هكذا صعد طارق صالح في قطار التسوية السياسية المعطوبة، فوق جثث الماضي التي جرى تجاهلها، وعلى صمت الحاضر المخزي!".

أصبح جزءًا أساسيًا من بنية "شرعية" أعادت، في كثير من تجلياتها، إنتاج النظام والوجوه ذاتها التي كانت سببًا مباشرًا في تفجير البلاد وتدميرها.

ثم يقال لنا: "جرت في النهر مياه كثيرة"! تُستخدم هذه العبارة كتذكرة مجانية لتجاوز المذابح، وكجسر خشبي هش يُراد لنا أن نعبر عليه نحو نسيان قسري، لتمرير الصفقات على حساب المبادئ والحقوق. لكن أي نهر هذا الذي جرت فيه المياه الكثيرة؟

هل هو النهر الذي جرف أجساد الأطفال الذين سقطوا برصاص القناصة والقذائف العشوائية؟  

هل هو نهر دموع الأمهات الثكالى، والزوجات اللواتي ينتظرن خلف الأبواب أبناءهن المغيبين؟  

ذلك النهر مياهه ليست عذبة، بل مزيج من دموعنا، وأحزاننا، وقهرنا الجماعي الذي جرى بلا توقف طوال أكثر من عقد.

اليوم، يتحدث طارق صالح عن "السيادة"، عن "العودة"، عن "العمل من الداخل".  

لكن أي وطن تقصده، يا فندم؟  

هل هو الوطن الذي شاركت في تهجير أبنائه، وفي قصف أحيائه، وفي زراعة الخوف في شوارعه؟

هل هو وطن سجن "٤٠٠"، وسجن "معسكر أبو موسى الأشعري"؟  

وطن تدير فيه مدينة واحدة، وعشرة سجون؟

هل يمكن استعادة الدولة عبر القفز فوق الحقائق، بطمس الجرائم، بالتعالي على جراح ملايين اليمنيين، وكأنها مجرد صفحة يمكن طيها، أو كأنها لم تكن؟

إن استعادة الدولة لا يمكن أن تتم دون مصالحة ومصارحة مع الحقيقة والتاريخ، وجبر للضرر بدلًا من تجاهله.

ليس المطلوب من طارق صالح أن يسجن نفسه في الماضي، أو أن يعاقب ذاته جزائيًا - رغم أن العدالة تبقى مطلبًا أساسيًا للضحايا - ولكن المطلوب منه، ومن المنظومة التي استوعبته، أن يدركوا أن دماء الضحايا لا تُغسَل ببيانات سياسية، وأن الوطنية الحقة لا تُختصر في ارتداء زي عسكري جديد على جهة من جهات الحرب، أو في شغل منصب رفيع لم يُنتخب إليه أحد، بل في اعتراف شجاع وغير ملتبس بأن الماضي الذي شارك فيه كان خطأ فادحًا كلف الوطن أرواحًا وخسائر لا تُعوَّض.

نحن الذين وجدنا أنفسنا في الخارج، هربًا من قناصته ومخبري عمه وسجون أخيه، لا نبحث عن شهادة وطنية من أحد، ولا سيما من كان سببًا في مأساتنا كشعب وأفراد.

نحن نعرف جيدًا لماذا غادرنا، ونعرف جيدًا من كان يطاردنا ويستهدفنا. وإذا كنا ننتمي إلى فئة ما يصطلح عليها "النخبة"، فهي نخبة حاولت، وتحاول، البقاء على قيد الكرامة والمبدأ، لا نخبة تتهافت على المقاعد الوثيرة، والمواقع التي تمنحها الشرعية بلا استحقاق أخلاقي أو سياسي حقيقي.

في زمن التشوه السياسي، تحوّل القاتل إلى واعظ، والمهاجر قسرًا إلى متهم بالتقصير وقلة الوطنية. وهذا الانقلاب في المعايير لا يصيب الضحايا وحدهم، بل يشوّه المعنى ذاته للوطنية والعدالة.

لكننا نؤمن أن الكرامة والمبادئ لا تُقايَض، لا بالمناصب، ولا بالمساومات، ولا بشهادات زائفة يمنحها من لم يتطهّر بعد من خطيئة تدريب قناصة ميليشيا الحوثي، ولا يزال يوزع صكوك الانتماء من منصة شُيّدت فوق صمت الضحايا!

من لم يجد في نفسه الشجاعة للاعتذار الصادق عن دوره في آلام الناس، لا يحق له أن يلومهم أو يدينهم لأنهم لم يصفقوا لصعوده على أنقاضهم، أو يعودوا للعمل تحت رحمته!

شعب اليمن المنكوب بحاجة ماسة إلى قيادة وطنية تعمل على إيجاد وطن لا يُدار بعقليات الضباط الذين يتشبثون بذكريات السيطرة والقمع، ويستمدون نفوذهم من الاستعداد غير المشروط لتأجير البندقية.

وطن لا يخاف فيه أي من أبنائه من العودة إليه، ولا يخشى فيه أحد من طلقة قناص أو قيد سجان.

وطن تديره نخبة من المؤمنين بقيم العدالة، المخلصين في خدمة الناس، الممتلئين إيمانًا بحق الشعب في التنمية، والحرية، والمعرفة المستنيرة.

وطن لا يُبنى على صفقات المحاصصة السياسية التي لا تعترف إلا بالبندقية القادرة على إيذاء المجتمع؛ الصفقات الهشة التي تعيد تدوير الأزمات بدلاً من حلها.

وطن يُبنى على المكاشفة الصادقة مع الذات والتاريخ، وعلى أسس راسخة للمحاسبة والعدالة الانتقالية.

وحتى يحدث ذلك، فإن وجود شخصيات مثل طارق صالح في واجهة المشهد، دون أي مساءلة أو اعتراف بالخطأ، ليس أكثر من مرآة تعكس واقع النظام السياسي، وتذكير مؤلم بأن طريق اليمن نحو التعافي واستعادة الدولة لا يزال طويلًا وشائكًا.

مقالات

"كمران" أكثر من علامة تِبغ!

ربّما يعرف اليمنيون جميعاً "كمران" باعتبارها العلامة التجارية الأولى لأهم منتج محلي من التبغ، لكن ربّما يجهل الغالبية العظمى منهم أنها من أهم الجزر اليمنية على البحر الأحمر.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.