مقالات
"طِلْبة الله" أم "موهبة الله"؟
زاد اهتمام اليمنيين بالفن في سنوات الحرب والتشظي والشتات، كأنه ملاذ يهربون إليه لاستعادة إحساسهم بالانتماء الجمعي لبلد يكاد أن يفلت من أيديهم إلى الأبد.
برزت، في العشرية الماضية، عشرات المواهب في الغناء والرسم والتمثيل، في علاقة عكسية مع عقد كله حروب وتجويع وحياة، يكاد الألم يكون سمتها الأساسية.
بزوغ موهبة ترفع صوتها بالغناء خارج اليمن، أو في إحدى مدنه العطشى، لصورة أخرى لا بؤس فيها، هو نوع من مقاومة الموت والجوع والتشرّد، وكل ما يهدد اليمني بالفناء.
تعرّفنا على أصوات غنائية لافتة، فنانين وفنانات، ومع كل نغمة صوت شابة يلتمع الأمل من جديد، وتستعيد الحياة أنفاسها في وعي اليمني، وكأنَّ الفن يُلهمه القوة اللازمة للتمسك بالحياة، يمنحه القدرة على المواصلة وانتظار فرج قادم.
في حقل الأعمال التلفزيونية، أنتجت مسلسلات كثيرة في موسم رمضان،
تجاوز الجمهور اليمني حدة النقد ومقاييسه ليحتفي بأعمال يمنية تقدم مواهب جديدة، وتضيف للدراما اليمنية أعمالا معقولة في وضع يفتقر إلى بيئة داعمة لازدهار الأعمال الفنية، مع استمرار حالة اللادولة، واستمرار الصراع والانقسامات والشتات في وضع اليمن.
هذه الاستمرارية لفن ينحت في الصخر لا تسلم من تحريض متطرِّف بين حين وآخر، والتحريض الذي تعرَّض له الفنان عمار العزكي، في أيام العيد، مع بث أغنية جديدة له، ليس الأول، ولن يكون الأخير.
-المسلسلات الرمضانية: تفهم وتحفيز.. لا تبرير للرداءة
زيادة القنوات الفضائية، التي ترعى مسلسلات يمنية، هي وضع تحفيزي مختلف، سيكون له تاثير مهم في تطور الأعمال التلفزيونية في الأعوام القادمة.
ظهرت مواهب جديدة، وتوفرت فرص عمل لممثلين قدماء، ورغم كل ما يقال عن مستوى المسلسلات اليمنية إلا أن الملاحظ أن جمهورها اتسع، وغدا لافتا اهتمامه بالمسلسل اليمني مقابل انخفاض اهتمامه بالمسلسلات المصرية في السنوات الأخيرة.
احتفاء اليمنيين بالفن عموما خلق مزاجا عاما لديه استعداد لتفهم أداءات متوسطة وعادية في الأعمال التلفزيونية الرمضانية، بعضها يفتقر تماما إلى اللمسة الإبداعية، وبعضها لا يقدم شيئاً سوى تكرار الرداءة، وكأن لا شيء لدى معديه يقدمونه سوى تأكيد خوائهم.
بإمكاني القول، دونما مبالغة، إن مسلسل "دروب المرجلة" مثال لهذا النوع من الأداء الرديء الذي لا يتطور، ولا يترك لدى المشاهد سوى إحساس بافتقاد من يعدون مثل هكذا أعمال لأي قدرات ذاتية تمكنهم من تجاوز الرتم الاعتيادي المألوف.
التساهل، وتجنب النقد الصارم، مُلاحظ في المزاج العام للجمهور، ومن يكتبون عن الأعمال التلفزيونية، غير أن الحال تختلف أمام منطق يُبرِر للرداءة بمسمى أن الفن ليس له هدف عدا كونه "طلبة الله"!
هل كان فشل المسلسل الأخير للفنان صلاح الوافي حاضرا في لا وعيه وهو يطلق مقولته في لقاء تلفزيوني بعد العيد، وكأنه يبرر هبوط أدائه واختياراته، وضعف ما يقدّمه في السنوات الأخيرة من أعمال فنية رمضانية؟
هذا أقرب إلى تفسير الصراحة الصادمة التي عبَّر عنها صلاح. وكأنه يقول: ليكن، أنا مستمر لأجل العيش، ولا اهتم بجودة العمل الفني، ولا تهمني آراؤكم!
أن يفشل مسلسل، أو يخفق ممثل في دور تلفزيوني، لا جديد في ذلك. حدث ذلك كثيرا، ومن ممثلين كبار في بلد يسبق اليمن بمسافة شاسعة في هذا المجال؛ مثل مصر، ما الحال في اليمن؟!
لكن فشل مسلسل، أو ممثل في دور تلفزيوني، شيء والتبرير للرداءة والإخفاق، بالقول إن الفن هو هكذا، وأنه مجال ل"طلبة الله"، أمر آخر تماما.
هنا، يكون القبول بمنطق كهذا إقرارا يقوِّض معنى الفن، والمتوقع منه كمجال إبداعي.
الفنان، الذي يجعل المال غايته، يخلق أعمالاً ميتة، بلا روح، تُنسى سريعاً؛ لأنها لم تولد من شغف حقيقي أو فكرة عميقة. السعي لجمع المال بحد ذاته ليس عيباً، لكن عندما يُختزل الفن فيه يصبح "الفنان" أشبه بكائن بلاستيكي لا نتوقع منه أن يقدم شيئا ذا قيمة، ويستحق أن نتابعه من أجله.
الفن بين الشغف والحاجة!
ملخص النقاشات في الفضاء التواصلي اليمني انتظم في وجهتي نظر: الأولى عبَّر عنها صلاح الوافي، وملخصها أن الفن طلبة الله! هدفه وغاية غاياته هو العائد المادي الذي يحصل عليه الممثل، الفنان. ووجهة النظر الأخرى ترى أن الفن رسالة. لكن معنى كلمة "رسالة" هنا هو أن "العمل الفني له معنى وهدف يتجاوز الحاجة المادية إلى الفنان، على أهميتها ومشروعيتها".
وهذا المعنى للرسالة لا يأخذ المعنى القديم المناقض لتيار الفن للفن، بل معنى آخر نقيض لرؤية تحصره في حاجة الفنان إلى المال.
الفن "طلبة الله" رأي ينظر إلى الفن باعتباره مجرد وسيلة لكسب المال، بغض النظر عن المعنى أو القيمة الفنية، القيمية أو الجمالية.
أن يؤمن الفنان أن العائد المادي هو غاية الفن، ولا شيء سواها، هذا آمر آخر مختلف. ما الذي سيقدِّمه فنان، الفن في وعيه عمل وظيفي منفصل عنه، لا يلهمه، لا يحرك لديه سوى حافز الأمان المادي!
مفهوم الممثل صلاح الوافي للفن، والتصريح به بفجاجة أمام جمهوره ومتابعيه، ليس مجرد "ترند" عابر. هذه فكرة مهمة وسائدة، وتحتاج إلى نقاش مستمر وواسع يتجاوز المناسبة الشخصية التي تحدّث فيها فنان يمني، لتلامس الفكرة موضوعياً.
بعض من كتبوا حول هذه الفكرة استحضروا جدلا قديما حول ثنائية "الفن الملتزم والفن للفن"، وكانت تمثل وجهتي نظر في سبعينات القرن الماضي، إحداهما تحصره في إطار أيديولوجي يوصل رسالة قيمية وسياسية، تتسم بالمباشرة، وتلغي ذات الفنان واختياراته، أو على الأقل تجعلها تابعة للتيار الأيديولوجي والسياسي الذي ينتمي إليه. والتيار الآخر كان يرى الفن قيمة جمالية وإبداعية بحد ذاته، تتحدد في توجّه الفنان وإبداعه، وما يضيفه بمقياس ما هو جميل وكاشف لمعنى جديد.
تلك ثنائية قديمة ومختلفة عن الرأي الذي عبّر عنه صلاح الوافي، ووافقه فيه كتاب ومفسبكون ومشاهير، سخروا من كل رأي يحاول أن يقول إن للفن معنى وقيمة يتجاوزان المقابل المادي الذي يحصل عليه الفنان.
الفن والمال: أيهما يخدم الآخر؟
التبرير لافقار العمل الفني من أي معنى لا يتوقع منه سوى إنتاج فن سطحي، تجاري، يرتبط عادةً بإنتاج أعمال فنية تُكرر نفسها دون تجديد أو إبداع حقيقي؛ لأن الهدف الوحيد هو العائد المادي.
من المؤكد أن للفن جانباً مادياً، وأن العمل في الفن يجب أن يوفِّر للفنان دخلاً يتيح له الاستمرار. لكن القول إن الفن هو مجرد وظيفة و"طلبة الله"! أو أن المال هو الأساس، يتجاهل جوهر الفن الحقيقي.
الفن، في جوهره، هو تعبير إنساني يتجاوز الرّبح المادي، وسيلة للتعبير عن الأفكار والمشاعر والرؤى، وهو انعكاس لثقافة المجتمع وتاريخه وطموحاته، حتى أكثر الفنون التجارية نجاحاً تعتمد على الإبداع والشغف، وهذين العنصرين لا يمكن شراؤهما أو استبدالهما بالمال.
عندما يصبح الفن مجرد وسيلة لكسب المال يفقد قيمته وتأثيره. الأفلام والمسلسلات أو اللوحات أو الموسيقى التي تتوجّه فقط نحو السوق وتنسى رسالتها الفنية الحقيقية غالباً ما تكون جوفاء وسطحية، وسرعان ما تُنسى.
أعظم الفنانين في التاريخ - من الرسامين والشعراء والممثلين والموسيقيين - لم يتحولوا إلى أيقونات فنية في ذاكرة الإنسانية؛ لأنهم ربحوا الكثير من المال، بل لأنهم عبّروا عن شيء أعمق، أثّروا في الناس، ولامسوا وجدانهم، وقدَّموا رؤى جديدة.
المال وسيلة لاستمرار الفنان، لكنه ليس غايته. الغاية هي الإبداع، والتأثير، وترك أثر يغدو جزءاً من إرث الفن وتاريخه.
إذا كان المال هو الأساس، فلماذا بقيت أعمال فنية خالدة رغم أن مبدعيها ماتوا فقراء؟ لماذا يتذكّر الناس المخرج حاتم علي، ولا يهتمون بمعرفة كيف عاش، وهل كان فقيراً أو غنياً، أو كم استفاد من أعماله الفنية؟ لماذا تسكننا أغاني أم كلثوم، وتعبِّر عن أحاسيسنا أغاني عبدالحليم حافظ، رغم أنهما لم يكونا ثريين، ولا نهتم حتى بمستواهم المادي؟ لماذا نقرأ لمحمد عبدالولي ونجيب محفوظ؟ هل لأنهما كانا تاجرين ناجحين أم لأنهما روائيان مبدعان عبّرا عن أعماق المجتمعين اليمني والمصري؟
هناك فرق بين أن يكون المال في خدمة الفن، أو أن يكون الفن في خدمة المال.
كل عمل إبداعي: فيلم، أغنية، لوحة… إلى آخره، لا يتألق كعمل إبداعي إذا لم يكن فيه شغل موهبة، وإبداع في جوهره.
الإمكانيات المادية مُمكن تخدم عملا يحوز في ذاته على إبداع، وتوفِّر له فرصة للنجاح والانتشار، لكنها لا تكفي وحدها لخلق عمل فني ناجح.
• أن تكون فناناً.. أن تُجيد الحياة وتُغنِي العالم
الحياة كذلك ترتقي إلى مرتبة العمل الإبداعي عندما يجيد المرء ما خُلق له، ما اختاره من طريق، عمل، مهنة.
كل فعل يتحد به المرء ليكون جزءاً من ذاته ينتج فناً، فنا بالمعنى الواسع خارج إطار الفن وأنواعه، يجيد الحياة.
ربّما يكون مناسباً أن أختم مقالي بومضة عن الحياة كفعل خلاق، للروائي هنري ميللر، شاركوني قراءتها:
"قليلون هم من يتمكنون من الإفلات من العمل الروتيني. إن الاكتفاء بالبقاء على قيد الحياة، بالرغم من الوضع القائم، لا يمنح تميزاً. فالحيوانات والحشرات تبقى على قيد الحياة عندما تتهدد الأنماط الأرقى بالفناء. وأن يعيش المرء خارج الحدود، ويعمل من أجل متعة العمل، ويتقدم في السن بسلام مع احتفاظه بقدراته، وحماسته، واحترامه لنفسه، عليه أن يؤسس لقيم أخرى غير تلك التي يقرها الرّعاع. يتطلب الأمر فناناً لإحداث مثل هذا الصدع في الجدار. الفنان هو في المقام الأول ذاك الذي يثق بنفسه. إنه لا يستجيب للإثارة العادية: إنه ليس كادحاً ولا طفيلياً، إنه يعيش لكي يعبِّر عن نفسه، وبفعله هذا يُغني العالم".