مقالات

عبد الله سلام ناجي.. شاعر التمرّد والسَّلى الغزير (1-2)

03/02/2022, 15:25:14
المصدر : خاص

النِّتف القليلة المتناثرة، هنا وهناك، من سيرة الشاعر والناقد الراحل عبدالله سلام ناجي تقول إنه مولود في قرية "الأُكيمة" في منطقة جبل صبران عزلة بني غازي بمديرية الشمايتين، قضاء الحجرية، محافظة تعز في العام 1939م.. تتلمذ على يد والده الفقيه سلام ناجي سالم (خريج زبيد)، الذي عُرف في حياته كمدرّس للقرآن الكريم واللغة العربية في مِعلامة القرية، وحينما انتقل إلى عدن وعمل مدرساً في مدرسة "بنجامين إسلام" في التواهي أخذ معه ولده الصغير ذا الأعوام السبعة.

بعد فترة قصيرة من دراسته في المدرسة، التي يعمل بها والده، انتقل إلى المدرسة الأهلية بالتواهي، التي كانت تستقبل الطلاب الذين حُرموا من الالتحاق بالمدارس الحكومية، بسبب عدم امتلاكهم وثائق الولادة في مدينة عدن (المَخَالق)، وكان معظم الطلاب الملتحقين بالمدرسة، والمدارس المشابهة، من أبناء المحميات (الشرقية والغربية) والمملكة المتوكلية.

أكمل في المدرسة الأهلية تعليمه الأساسي والمتوسط في العام 1954م بتفوق، مما مكّنه من الالتحاق بكلية عدن(*) مع مجموعة من الطلاب المتفوّقين من مدارس عدن الخاصة والخيريّة، مثل مدرسة بازرعة الخيريّة في كريتر.

يروي الراحل حسين محمد السُفَّاري في كتاب "حياة تُملِّحُها الحكايات" أنه تزامل مع الشاعر عبدالله سلام ناجي في كلية عدن في العام 1955م، وأنه في أحد الاحتفالات اقتحم المنصة وألقى قصيدة سياسية صارخة تدين الاستعمار والأنظمة الرجعية. كان الجو العام في عدن وقتها يغتلي حماساً، ويتعالى بطموحات الناس إلى مصافي الحرية الكاملة والانعتاق غير المنقوص.
قامت الكلية -بفعل هذه الواقعة الشجاعة- بفصله وهو في مستوى دراسي متقدّم.

الرواية الشفاهية الأخرى تقترب من رواية السُفاري، وتقول إن "ابن سلام" كان مُدرجاً في برنامج الحفل بقصيدة تم إجازتها مسبقاً من إدارة الكلية، غير أنه قام بإلقاء قصيدة أخرى تحريضية، فتم فصله مع زميله صالح الدحان، الذي تضامن معه بكل الوسائل بما فيه التحريض ضد إدارة الكلية.
 بعد فصله من الكلية استطاع الحصول على منحة إلى جمهورية مصر العربية عبر أحد التكوينات الاجتماعية في عدن، بعد حصوله على جواز "توكلي" استصدره من وزارة خارجية الإمام بتعز في العام ذاته.

في سنوات دراسته الثانوية في مصر، التي أكملها في العام 1961م، بدأت مدارك الشاب بالتفتّح على عوالم سياسية وثقافية أكثر اتساعاً مما كانت عليه حالته المعرفية إبان تكوينه الباكر في المدرسة الأهلية بالتواهي أو كلية عدن، وإن انخراطه في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي بشكل رسمي في حلقات الطلاب اليمنيين وقتها في القاهرة، حينما كان البعث يمثل حركة فكرية وثقافية وسياسية ذات تأثير طاغٍ على الأُدباء والمثقفين الشبان في اليمن، ولأنه في الأصل كان الحزب الوحيد الذي استطاع تقديم خطاب إحيائي مختلف القضايا العروبة والقومية لتكون الحاضنة الواعية في مشروع الاستقلال الذي بدأ في مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية، فكان بذلك محط إعجاب الكثير من الشباب المتحمّسين للعمل السياسي في بلد معزول ومتخلّف كاليمن.

 يقول الأستاذ علوان الشيباني في مذكراته (الحياة كما عِشتُها) - مخطوط- أنه بعد أن تقدَّم مجموعة من الطلاب اليمنيين لامتحانات منح الخارجية الأمريكية  (منح السيناتور فولبرايت) عبر القنصلية اليمنية في القاهرة في صيف 1962م، اُعلن عن قبول ثلاثة من الطلاب (عبدالله سلام ناجي، ومحمد نعمان غالب القدسي، وعلوان سعيد الشيباني)، غير أن عبدالله سلام ناجي استبعد  لعدم تجاوزه الفحص الطبّي.

 بعد تعذّر سفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التحق بجامعة القاهرة كطالب طب، غير أنه لم يستمر طويلاً، إذ قامت الأجهزة المصرية بالتضييق عليه، وكان قريبا من دخول المعتقل بسبب انتمائه السياسي، لولا مغادرته السريعة أرض مصر؛ ويقال إن الفنان محمد مرشد ناجي كان له دور في إخراجه من مصر، وإن صحّت هذه الرواية يعني أن تعاوناً فنياً بين المرشدي وابن سلام كان قد نشأ على الأقل في أغنية "يا ميناء التواهي"، وسيتبعها بأغانٍ عديدة، منها "كاذي الصباح، وليلية"، وهي النصوص التي ستكون مع غيرها محط قراءة تالية في هذا النص.

قبل استقراره في دمشق كطالب جيولوجيا، كان قد تحصل على منحة إلى دولة تشكوسلوفاكيا لدراسة الطب، لكنه لم يستطع المواصلة فيها لأسباب سياسية - تضييق الأجهزة الأمنية عليه بسبب نشاطه السياسي أيضاً-

في المرحلة الدمشقية سيصير قائداً طلابياً كبيراً، في إطار اتحاد الطلاب اليمنيين، وشاعراً يشار إليه بالبنان، وناقداً أدبياً بمنهج علمي واضح؛ فلم يعد السياسي الجاف هو الذي يُعرَّف به، بل الشاعر والناقد المنحاز لقضايا الجماهير.. وستثمر هذه المرحلة قصيدته ذائعة الصيت "نشوان والراعية"، التي أتمها في العام 1964م في الغالب، والتي ستغدو لاحقاً معرِّفاً جديداً، ليس بالموضوع الشعري في اليمن بمستلهماته الحكائية، وإنما بنقل العامية إلى مصافٍ من التلقي العالي، لتصير مع الوقت الدليل لكتابة النص العامي المتجاوز للقولبة والتنميط عند كثير من الشعراء، أو كما يقول عبد الباري طاهر - في تقديمه لـ"أوبريت الدودحية" 2014:

"كان ابن سلام من أوائل من كتب الملحمة الإبداعية العامية 'نشوان والراعية'، وقد أسست الملحمة  لاتجاه في الشعر الشعبي، كما في الأغنية  الشعبية أيضاً. وقد تركت تجربة سلام أثراً عميقاً في الشعر الشعبي، نجد أثره وصداه العميق عند كوكبة من أهمِّ مبدعي القصيدة والأغنية العامية: محمد عبد الباري الفتيح، الدكتور سلطان الصريمي، عبد الفتاح إسماعيل، زين السقاف وغيرهم".

في تقديمه للطبعة الأولى من الملحمة الشعرية "نشوان والراعية"، رأى جعفر عيدروس فيها تجربة رائدة في تعبئة الشعب اليمني للثورة، وهي في سياق تقديمه عمل أدبي يخلق من الحكاية الشعبية التعبير الحي عن أحلام الشعب، وتقديره للبطولة، وسخطه الغامض على الظلم. ومن أجوائها:

"الليل غُدراَ دائمه/ حتى السماء ما بيش نجوم

من السحاب القادمه/ من حَيد مُعبأ بالسموم

يُعطي النفُوس المجرمه/ قوة وما تقدرش تدوم".

في العام 1971م، عاد عبدالله سلام ناجي إلى عدن المدينة التي عشقها حتى الثمالة، بعد أن أنهى دراسته الطويلة في دمشق، فعمل في وزارة النفط حتى العام 1976م.. في إقامته العدنية الجديدة عاش واقعاً سياسياً مختلفاً غير ذلك الذي تركه في العام 1956م، في عهد الاحتلال الإنجليزي.. كانت السلطة الجديدة تمضي في مشروعها السياسي والاجتماعي ذي المنزع الاشتراكي الحاد، وما رافق ذلك من سياسات اقتصادية صارمة وتضييق أمني شديد على الحريات.. في هذا الجو المشحون لم يستكن الشاعر بداخله، ولم تنطفئ جذوة الناقد في وعيه المتمرّد، فأنجز العديد من الأعمال الشعرية والنقدية، ومنها قصيدته العامية ذائعة الصيت "رسالة من دثينة"، التي أهداها للطيار اليمني عمر غيلان الذي استشهد "دفاعاً عن الأمة العربية" في حرب تشرين/ اكتوبر 1973م، والتي صارت لازمتها "غارتك يا ولي الشقات)" مثلاً يجري على الألسن.

"واغارتك، غارتك يا ولي الشقات/ إمحق بسرك دُكاك الشتات.. من مودية استنجدك بالشرف/ يا رفيع الشرف/ شغلي بوحيك وقف/ والشمس ضوئه غَطَف/ والريح بمشيه بدء يختطف له نُطف/ شعتله وانتسف".

إلى جانب هذا النص الشعري أنجز العديد من الدراسات النقدية، ومنها دراسته لموضوع "الواقع والانتماء في الشعر اليمني الحديث"، التي صدرت لاحقاً في كتاب.
 في العام 1974م، سيكون ضمن ثلة من المثقفين والأدباء والكُتاب والمؤرخين الذين سيسهمون في عقد المؤتمر الأول لاتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين في مدينة عدن.

في مطلع العام 1977م، غادر عدن سراً إلى قريته "الأكيمة" بعد شعوره بخطر داهم من الأجهزة التي بدأت بحملة اعتقالات وإخفاء قسري للكثير من غير المحسوبين على بنية السلطة الجديدة من المثقفين والأدباء، وبعد عام وصل إلى صنعاء، حيث عُيِّن بعد فترة من وصوله إليها نائباً لرئيس مركز الدراسات والبحوث اليمني، وبعدها انتقل للعمل في شركة النفط اليمنية (شركة المحروقات).

 ابتداء من العام 1987، اختار العزلة الصامتة، ليرحل بعد اثنتي عشرة سنة عن ستين عاماً؛ تاركاً وراءه إرثاً استثنائياً (شعراً ونقداً ومسرحاً وسرداً).

(*) تأسست كلية عدن في العام 1952م، في منطقة بين الشيخ عثمان ودار سعد، حيث كانت تقبل الملتحقين فيها من الطلاب المتفوّقين من المدارس الحكومية والخاصة والمدعومة حكومياً، ويتحصل الطلاب، الذين أنهوا الدورات المقررة فيها، على شهادة الثقافة العامة (جي سي إي)، التابعة لجامعة لندن العريقة.

(يتبع)

مقالات

لا ضوء في آخر النفق!

عندما بدأت الحرب على اليمن في 26 مارس، بدون أي مقدّمات أو إرهاصات أو مؤشرات تدل على حرب وشيكة، حيث تزامنت هذه الحرب مع هروب عبد ربه منصور إلى سلطنة عُمان، وكان قرار الحرب سعودياً، ثم إماراتياً خالصاً، تحت مسمى "إعادة الشرعية"، التي في الأصل قامت السعودية بفتح كل الطرق لدخول الحوثيين إلى صنعاء وطرد الشرعية منها، وأن هذه الحرب لم تكن مرتجلة بل مخطط لها لإعادة اليمن إلى ما نحن عليه اليوم، من شتات وتمزّق.

مقالات

هنا بدأت رحلتي

أضواء خافتة تقسم الشارع بالتساوي بين الذاهبين والقادمين، قمر في السماء يوزع ضوءه بين سطوح المنازل وقناة الماء في ميدلبورغ، وأنا أجلس خلف ضوء دراجتي الهوائية، وخلف أمنيتي أن يستمر الطريق بلا نهاية.

مقالات

حديث لن يتوقف!

يومَ أعلن علي سالم البيض بيان الانفصال، في خضم حرب صيف 1994م، تنصَّلت جُل - إنْ لم يكن كل - قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي عن مسؤوليتها تجاه هذا الإعلان المقيت، الذي لم تقوَ حُجَّته أمام كل ذي عقل بأنه كان اضطرارياً، كما حاول البعض الزعم به يومها، إذْ لم يجرؤ أحد على القول إنه يتفق مع مشروع الانفصال.

مقالات

أمير الشعر الحميني عبر كل العصور

"لا توجد كلمات غنائية أصيلة بدون ذرة من الجنون الداخلي". يطِلُ عبدالهادي السودي من بين هذه الكلمات، لكأنها كتبت فيه، وعن سيرته، وتفردهُ شاعراً، وعاشقاً، وصوفياً، وعلامة فارقة لِعصرهِ، وشاغلاً للأجيال من بعده.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.