مقالات

عدن في ذاكرة النضال الفلسطيني

25/12/2023, 10:12:18

لم تكن القضية الفلسطينية قضية شعب فقط، بل كانت قضية أممية ترفض الظلم والغطرسة الصهيونية، وانضم لها فدائيون من مختلف دول العالم؛ لنصرتها.

كما أن مدنا عربية قليلة كانت منطلقا لعمليات النضال الفلسطيني في السبعينات، من بينها عدن، بينما كان مسرح العمليات كل بلدان العالم. 

عدن الخارجة آنذاك من رزحة الاستعمار البريطاني كانت إحدى محطات النضال الفلسطيني في حقبة السبعينات، والثمانينات، واستضافت العديد من القادة الفلسطينين والثوريين الأجانب، الذين ناصروا القضية الفلسطينية، ليقوموا بإعداد مخطاطاتهم، وتدريب أفرادهم فيها، والانطلاق منها لتنفيذ العديد من العمليات العسكرية في مختلف مدن العالم. 

هزيمة 1967 كان لها الدور الأكبر في انبثاق تنظيمات فلسطينية جديدة تتخذ العنف الثوري، والعمليات العسكرية كخيار رئيسي ضد عدو يمتلك السلاح والمال والقوة والدعم الإمبريالي، وكان ظهور الجبهة الشعبية، التي انبثقت من حركة القوميين العرب، يمثل حقبة جديدة في حقب النضال الفلسطيني، الذي اتخذ طابعا يساريا أمميا يتجاوز البلدان. 

كارلوس الفنزويلي واحد من الشخصيات العالمية، التي انخرطت في هذا النضال. اسمه اليتش راميز سانشيز، والده يساري وأحد كوادر الحزب الشيوعي الفنزويلي، وقد أسماه والده إليتش تيمنا بلينين (فلاديمير إليتش لينين). أعطته الجبهة الشعبية اسم سالم، بينما ذاع صيته عالميا باسم كارلوس، أو ابن آوى. 

التحق كارلوس بالجبهة الشعبية الفلسطينية، وكانت الجبهة الشعبية أبرز تنظيم فلسطيني يساري يقوم بالعديد من العمليات العسكرية في عدد من دول العالم. وكان المسؤول عن العمل العسكري الخارجي، أو المجال الخارجي، كما يسمونه داخل الجبهة الشعبية، هو المناضل الفلسطيني وديع حداد، الذي هو المسؤول عن كارلوس أيضا، وكل الفدائيين الأجانب الذين انخرطو في الجبهة الشعبية الفلسطينية للقيام بدعم النضال الفلسطيني ضد "إسرائيل". 

وصل كارلوس للانضمام بالجبهة الشعبية في عام 1970، وبدأ تدريبه العسكري في بيروت، وكانت عدن هي المحطة الثانية والأبرز في مرحلة تأهيله عسكريا، والانطلاق لتنفيذ العديد من العمليات العسكرية، التي وصلها في عام 1974.

أما وديع حداد فقد وصال إلى عدن في بداية السبعينات، بعد خروج القوات الفلسطينية من الأردن، ثم لا حقا من بيروت، وكانت عدن حينها تحت حكم الحزب الاشتراكي. 

لم يكن كارلوس في البدء سوى فدائي مناضل في أحد فصائل وديع حداد، التي ستهز العالم فيما بعد.

 تلقى كارلوس التدريب عند وصوله عدن في مدينة جعار، وكانت الفصائل العسكرية الفلسطينية تسمي معسكر التدريب هذا بمعسكر عدن. وقد تم اختيار جعار لعدة أسباب؛ منها أنها بعيدة عن أنظار الدول ومخابراتها، ولأن عدن واليمن الجنوبي كانت تحت مظلة الحماية الاشتراكية الممثلة بالاتحاد السوفيتي، الذي جعلها في مأمن من أي ضربة دولية. وبرع كارلوس في تدريباته العسكرية في المركز التدريبي في جعار، وبالذات في عمليات الاغتيال بالمسدس، كما أظهر لاحقا قدرة بارعة في التنكر، معسكر جعار، الذي كان يتردد عليه بين حين وآخر وديع حداد، ويُشرف عليه المناضل الفلسطيني زكي هللو.

في هذا المعسكر -الذي كان عبارة عن بناية تتسع لأربعين متدربا- تلقت فصائل أجنبية كثيرة التدريبات، والدورات العسكرية، قبل تنفيذ عملياتها. 

بعد عامي 1973 و 1974، كانت عدن هي المكان الآمن لتدريب عناصر الجبهة الشعبية والتنظيمات الأجنبية المنخرطة فيها؛ مثل: الجيش الأحمر الياباني، وتنظيم بادر ماينهوف الألماني، ومقاتلين من بلغاريا وعدة دول. 

حصلت الجبهة الشعبية الفلسطينية والمناضلون الفلسطينيون على تسهيلات من قِبل حكومة اليمن الديمقراطي؛ لغرض دعم القضية الفلسطينية، وكان هذا بارزا وواضحا حين تم الهجوم على نافلة النفط "الإسرائيلية" الشهيرة (كورال سي) في باب المندب في عام 1971، وقد أقام منفذو العملية في جزيرة "ميون" لمراقبة السفن "الإسرائيلية" قبل تنفيذ العملية بأشهر، وكان لديهم مركب قديم ومتهالك لا ينفع للعملية، مما جعلهم يستعينون ويطلبون من حكومة اليمن الديمقراطي أن تزوِّدهم بمركب، فأجابهم رئيس الوزراء آنذاك، محمد علي هيثم، بأنهم لا يمتلكون مركبا، وبعد فترة اتصل بهم، وقال: "لهم يوجد في الميناء مركب جديد، اذهبوا واسرقوه، ونفذو به عملياتكم"، كانت هذه تعتبر بمثابة مساعدة بشكل غير رسمي. 

وكي يعلن للعالم أن ثمة قضية اسمها "القضية الفلسطينية"، رسم وديع حداد مخططاته في اختطاف الطائرات، التي هزَّت العالم، وكانت عدن إحد المحطات التي يقوم الفدائيون الفلسطينيون بخطف الطائرات، وإجبار قائدها على التوجه إلى عدن، وقد تكرر اقتياد الطائرات المخطوفة بالرهائن إلى عدن عدة مرات.  

في فبراير 1972، اختطف "المجال الخارجي" طائرة "لوفتهانزا"، التي انطلقت من نيودلهي، وتم اقتيادها إلى عدن، وفي عدن كان بانتظارها شباب فلسطينيون لديهم تعليمات واضحة، وكلمة سر للإفراج عنها، وجرى التفاوض حولها، وتسليم الأموال، التي طلبتها الجبهة الشعبية في بيروت؛ ليتم بعد ذلك الإفراج عنها في عدن، وقام الشباب الخاطفون بتسليم أنفسهم للسلطات في عدن، بحسب الخطة؛ ليتم الإفراج عنهم.   

طائرات كثيرة اختطفها "المجال الخارجي" التابع للجبهة الشعبية، واقتادوها إلى عدن المدينة الآمنة لهم، إلا أن طائرة "لوفتهانزا" أخرى اختطفها "المجال الخارجي"، التابع للجبهة الشعبية، في عام 1977، كانت لها مآلات أخرى.

في البدء، أبلغ وديع حداد الرئيس سالمين بالعملية، التي وافق الأخير على اقتيادها إلى عدن، وتفجيرها إذا رفضت السلطات الألمانية تنفيذ مطالب الخاطفين -الذين كانوا ألمانا- ومطالبهم الإفراج عن بعض الأسرى في السجون الألمانية. وتم اقتياد الطائرة إلى عدن، غير أن تجاذبات حصلت بين الأطراف اليمنية، التي تواجدت في المطار، مما أدى إلى مغادرة الطائرة عدن، واقتيادها إلى مقديشو.

انفجر الخلاف بين الرفاق اليمنيين لحظة وصول الطائرة إلى عدن، ورفضت بعض الأطراف وصول الطائرة إلى عدن، ودفع سالمين ثمن موافقته على استقبال الطائرة، وتم تصفيته، وقتله لاحقا بعد عام. 

أما الطائرة، التي توجهت إلى مقديشو، تقل الرهائن والخاطفين، فقد لحقت بها طائرة ألمانية تحمل كمندوز ألماني، قام بمهاجمة الطائرة، وهي في مقديشو، وتم تحرير الرهائن، وقتل جميع الخاطفين، ماعدا إمرأه فلسطينية هي "سهيلة أندراوس". 

يشير بسام أبو شريف (وهو مناضل فلسطيني وعضو في قيادة الجبهة الشعبية) في كتابه "وديع حداد ثائر أم إرهابي"، إلى "أن ثمة ما كان يجري خلف الكواليس، الذي أدى إلى إفشال العملية، وأن اتصالات جرت بين الألمان والسعوديين واليمنيين في عدن، وطلبت بُون من أجهزة الاستخبارات السعودية منع هبوط الطائرة في عدن، مؤثرة مقديشو؛ بذريعة أنها لا تريد الاشتباك مع عدن. وأن ثمة صفقة فتحت الخزائن لتتدفق الدولارات على عدن ومقديشو دفعتها الاستخبارات السعودية. وبذريعة تلقي التهديدات اعتذرت عدن عن استقبال الطائرة، أما مقديشو رحّبت بها، حسب الأوامر التي تلقاها مدير استخباراتها من الاستخبارات السعودية والألمانية، وما أن هبطت الطائرة حتى اطفئت الأنوار، وجرى ما جرى". 

- فرحان ووساطة كارلوس 

كانت القضية الفلسطينية حاضرة في أغلب القضايا الوطنية في مختلف البلدان، وكان التنسيق بين الجبهة الشعبية ودولة اليمن الجنوبي على أعلى المستويات؛ المتمثل في أعلى هرم الدولة، إضافة إلى تنسيق "المجال الخارجي"، الذي يقوده وديع حداد، مع جهاز المخابرات آنذاك، الذي كان يسمى "أمن الثورة"، ثم لاحقا "أمن الدولة"، وكان فرحان مسؤول الاستخبارات الخارجية في "أمن الثورة" على تنسيق كامل مع مناضلي الجبهة الشعبية، إلا أن أحداثا داخلية في اليمن الجنوبي في عام 1986 تمخضت عن إصدار حكم الإعدام على فرحان، الذي كان يساند الفريق المهزوم في الحزب الاشتراكي.

وقد سعى كارلوس الفنزويلي -بوساطة لدى الطرف المنتصر- لإيقاف إعدام فرحان، وذكر كارلوس ذلك في مقابلة له مع غسان شربل، نُشرت في صحيفة "الحياة"، وفي كتاب "الصندوق الأسود"، حيث قال: "ولإن فرحان كان صديقا قديما من أيام بيروت، و علاقته وثيقة بتنظيمنا، اقترحت رسميا أن تجري مبادلة حياته بحياة أي من الخونة اليمنيين، الذين كانو عملاء الإمبريالية في عهد الشيخ الحجري، الذي تم إعدامه في لندن على يد أحد ضباط الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بحضور عبدالله فرحان نفسه"،  غير أن طلب كارلوس لم يُنفذ، وتم إعدام فرحان.  

- عملية "أوبك" 

كثير من العمليات تم التخطيط لها، وتدريب العناصر المنفذة في عدن، واحدة من هذه العمليات هي العملية الأشهر، التي نفذها كارلوس، وهي اختطاف وزراء "أوبك"، التي تمت في عام 1975. 

عملية معقدة لم يتم كشف تفاصيلها كاملة إلى الآن، إلا أن عملية الخطف تمت بسلاسة، وقام بها فريق محترف، يقودهم كارلوس. ولإن النفط كان سلاحا تنظر إليه الطلائع الفلسطينية على أنه سلاح في أيدي دول يجدر بها أن توظِّفه لدعم القضية، جرى التخطيط لخطف وزراء النفط لدول "أوبك"، أثناء اجتماعهم في فيينا. 

وداهم كارلوس وفريقه، الذي كان مكون من ستة أشخاص، وزراء النفط في القاعة، وتم احتجازهم، ورفع كارلوس صوته مفصحا عن نفسه، وعن القضية، التي ينتمي إليها؛ ليحبس العالم أنفاسه، وهو يشاهد أشهر وأخطر عملية خطف في العالم.

طلب كارلوس من الدولة المضيفة للاجتماع "باصا"، فما كان لها إلا أن تنفذ ذلك، وتم أخذ الرهائن (وزراء النفط) إلى المطار، وطلب كارلوس طائرة، وصعد عليها الخاطفون والرهائن.

و بعد إقلاع الطائرة من مطار فيينا، بدأت رحلة الإسرار والتفاوضات في الطائرة والمطارات، التي هبطت فيها، حيث هبطت الطائرة في الجزائر، ثم ليبيا، واختلى كارلوس بوزير النفط السعودي، أحمد زكي يماني، في مؤخرة الطائرة، ودار بينهم حديث لا يعرف أحد محتواه، عدا كارلوس ويماني، وفي هذا الحديث تمت الصفقة المجهولة.   

هبطت الطائرة في الجزائر، واُضيف بطل آخر لهذه العملية، هو بوتفليقة، الذي كان يشغل حينها وزير الخارجية الجزائري، الذي أدار تفاوضا آخر مع الخاطفين، وعدة دول. أقلعت الطائرة إلى ليبيا، إلا أنها عادت مرة أخرى ليتم الإفراج عن الرهائن بوساطة بوتفليقة. 

قضت تعليمات وديع حداد لمنفذي عملية "أوبك" أن يتم إعدام وزير النفط السعودي، أحمد يماني، وهذا ما لم يفعله كارلوس. 

بعد انتهاء العملية، قام وديع حداد باستدعاء كارلوس إلى عدن لمعرفة التفاصيل، التي تمت في العملية، ولماذا لم تحقق العملية نتائجها، التي وضعها وديع حداد عند التخطيط لها.

خضع كارلوس لاستجواب لمدة يومين في فيلا في خور مكسر، وكان أشبه بمحاكمة؛ انتهت بإعفاء كارلوس من العمل في "المجال الخارجي"، التابع للجبهة الشعبية. إلا أن وديع حداد لم ينسَ ما قدمه كارلوس للقضية الفلسطينية من عمليات، وخبرة بالبقاء في المكان، الذي يريده. 

كارلوس، الذي استقل عن وديع حداد بعد عملية "أوبك"، فضّل الاستمرار في الطريق نفسه، واستمرار النضال مستغلا علاقاته، خصوصا بعد أن استحق شهرة عالمية، وذاع صيته في العالم بأسره. 

تنقَّل كارلوس في عدة مدن، وكانت عدن من المدن الرئيسية، التي أقام فيها حتى عام 1990، وقيام الوحدة بين الشطر الشمالي والجنوبي، التي حصلت في أجواء عالمية مختلفة، تمثلت في انهيار المعسكر الاشتراكي، وتفكك الاتحاد السوفيتي، الذي كان مظلة للعديد من المناضلين العالميين، الذين أصبحو مكشوفي الظهر بلا قضية. 

تقول معلومات متضاربة إن كارلوس وصل إلى صنعاء، وأقام في فيلا في الحي السياسي لمدة قليلة، غير أن النظام السياسي طلب منه الرحيل، وتقول معلومات أخرى إنه تم توقيفه في مطار صنعاء عند وصوله من إحدى الدول، وتم منعه من الدخول إلى اليمن، الذي قد أصبح مختلفا؛ ليبحث حينها عن دول أخرى تحتضنه، وتستفيد من خدماته التي مازال يسميها "نضالا".

أقام كارلوس في الخرطوم في الفترة نفسها، التي تم استقبال بن لادن فيها من العام 1993، وحصلت صفقة بين نظام البشير وأمريكا؛ ليتم تسليم كارلوس إلى أمريكا، ومنها إلى فرنسا، التي حوكم فيها بعدة تُهم؛ من بينها قتل شرطيين فرنسيين، في بداية السبعينات. 

ويظل اسم كارلوس ووديع حداد من الأسماء المحفورة في تاريخ عدن، وما يزال النضال الفلسطيني مستمرا إلى الآن، وبوجوه ومكونات وطرق جديدة.

مقالات

صوت أمل.. لا يُطفئه الزمن

تختزل الفنانة أمل كعدل الفكرة الأعمق حول الفن بكلمات بسيطة وتلقائية. لا تترك لك شيئاً لتقوله ، أكثر مما لمسته بخفة أنيقة، وكأنها تلخص جوهر الفن وفكرته الرفيعة:

مقالات

مجلس القيادة الرئاسي والأسئلة التاريخية (3/2)

السبب الثالث: نستطيع القول إنه إذا كان مجلس القيادة الرئاسي قد تشكل من أغلبية أعضاء كانوا يقفون في الواقع على رأس تشكيلات عسكرية في المناطق المحسوبة على الشرعية، ضف إلى ذلك أنه احتوى مجلس القيادة على عضوية طارق وعيدروس، اللذين كانا يمارسان فعلهما السياسي والعسكري خارج سلطة الرئيس هادي، ثم أصبحا - على إثر مؤتمر الرياض - عضوين في مجلس القيادة الرئاسي، الذي أصبح رأس سلطة الشرعية المعترف بها دوليًا.

مقالات

حقوق المرأة في الولاية بين قادة السلف وبناتهم

في المطلب الثاني: انتهاكات وإهانة الأمم المتحدة للمرأة، يتناول الدكتور بعض قرارات الأمم المتحدة، ويعتبرها انتهاكًا لأعراض النساء في العالم، وجنايةً على البشرية من فرض الزنا والفاحشة، وانتهاك السيادة الوطنية.

مقالات

القائد.. فاعل خير!

الوضع المعيشي في اليمن يتدهور على نحو مروّع، في حين تعمد بعض قيادات السلطة إلى إنتاج مشاهد مؤذية ومهينة لليمنيين بلا خجل. هؤلاء الذين تقع على عاتقهم مسؤولية مواجهة الانهيار الاقتصادي المريع في البلاد ووضع حلول للمجاعة، اختاروا استغلال المجاعة ذاتها، تلك التي ساهموا في صناعتها، فصيّروا أنفسهم “فاعلي خير”!

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.