مقالات
عن القضية الفلسطينية مرّة أخرى
أعتقد أنه لا يصح الحُكم على القضية الفلسطينية بالسياسة وحدها، فهي أكبر من ذلك بحكم طبيعتها، وينبغي أن نبني الأحكام في شؤونها بالمعرفة والأخلاق والإنسانية أيضاً، ويجب علينا -نحن اليمنيين والعرب- (الشعوب التي لا يمكن لها إلا أن تتورط بشكل أو بآخر في القضايا الكبرى لهذه الأمة)، أن نضع الحدود بينها وبين الاعتبارات السياسية الأخرى.
فبالرغم من عدم وجود مشروع عربي أو الحد الأدنى منه، إلا أن من واجبنا -على الأقل- عدم مساعدة أي مشروع غير عربي في غاياته، بحيث نحقق له ما يرجوه من ربط عضوي بينه وبين قضية كهذه، يفترض أن تخصنا أولاً رغم بُعدها الإنساني؛ كونها تدور في ساحتنا، ويتم اللعب فيها بدمائنا، وتعنينا قبل أي قوى إقليمية تطمح لأي دور، وبالتالي يجب مجدداً التأكيد على رسم الحدود وتوضيحها، ويكفينا هذا التِّيه.
وعلينا أن نرى القضية في بُعدها الإنساني ثم العربي، فلا يوجد ما هو أوضح منها في عصرنا، فهي أكبر من تلك الشعارات الدينية والدعاوى التاريخية الغريبة، التي يطرحها البعض، ويكفي أن ننظر ببساطة وصدق لما هو أمامنا، وهو مجيء أناس من دول مختلفة ليسكنوا في أرض ليست فارغة، وبها سكان يعيشون فيها منذ القدم، ثم يقوم هؤلاء الأجانب الجدد بطرد أصحاب الأرض (السكان الأصليين) من ديارهم وتهجيرهم وقتلهم!، ويتوسعون في هذا منذ سبعين عاما.
ومن المعيب والمخزي أن يتم تبرير وتفهم الإبادة، بسبب رد فعل يقوم به الضعيف للمطالبة بحقه، وتقره كل الشرائع الإنسانية والقوانين الدولية، أو محاولة اختزال القضية والالتفاف عليها بأعذار واهية مدفوعة ببُعد سياسي، أو إيديولوجي، يعتمد على تحميل النتائج غير المتوقعة والخارجة عن كل الأعراف والقوانين الدولية، وتوظيفها ضد الضحية، فالأمر هنا لا يحتمل أي نوع من التبرير، فنحن أمام واحدة من أبشع الجرائم في تاريخ الإنسان المعاصر ، ويفترض أن تكون قضية كل إنسان يحترم إنسانيته، قضية آخر منطقة في العالم بها جيب استعماري استيطاني يمارس الإبادة بحق السكان الأصليين، قضية الإنسان السوي في كل مكان، الذي يدافع عن حقه ضد القوي المدعوم من الدول "المتحضرة"، التي تريد فرض الحقائق والمعايير بالقوة خارج كل القيم، وتريد أن تقول لنا إن التحضر هو قبول الوضع الراهن، والتكيّف مع ضعفك فقط!، وأن نظل بلا قيمة وشعوبا يمكنها التخلي عن أوطانها وكرامتها وحقوقها في أي وقت!، رغم أنها بنت أوطانها بالكفاح والدماء والجهد والمعرفة، فضلاً عن النهب والاحتلال والإمبريالية، وليس بالإذعان الدائم المطلوب منا!، أما نحن فلا نريد شيئا آخر أكثر من العدالة.
إن الحرية والعدالة والانسانية قيم لا تتجزأ، وإذا أردت أن تكون إنسانا فعليك أن تكون كذلك بحق، وفي كل شيء وعلى كل المستويات، وليس تمييع القضايا الإنسانية والتركيز على تفاصيل تلغي جوهرها، وتعفيك من موقفك الأخلاقي والإنساني تجاهها، أو تجعل منك خصم جديد للمظلوم والضعيف، أما الإنسان السوي فيعرف الحدود بين متطلبات السياسة وترتيباتها وبين المواقف الإنسانية.
فوالله لو أن من قام بهذا التهجير والقتل للفلسطينيين أناس مسلمون وعرب من بني جلدتنا، لكان حقاً علينا معاداتهم دون تردد.