مقالات
عن المطبِّعين القُدماء والمنبطحين الجدد ومحور المزاودة!!
حينما طبَّع نظام الرئيس المصري أنور السادات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي في العام 1978م، حشد كل إمكانياته السياسية والإعلامية، من أجل صياغة وعي مغاير لموضوع السلام مع الإسرائيليين في منظومة المجتمع المصري وبُناه الحيوية، غير أن الأمر لم يسرِ بذات رغبة السلطة ومخططاتها، ومن ورائها الدعم الأمريكي والغربي اللامحدود، إذ وقفت في وجه عملية التطبيع كل مكوّنات المجتمع المصري وشرائحه، التي رأت، ولم تزل، في الكيان الصهيوني عدواً أبدياً ومغتصباً لأرض غيره، وسكانه عبارة عن لُقطاء تم تجميعهم من أنحاء المعمورة تحت دعاوى دِينية خرافية، واستنبات هذا الكيان في قلب الشرق الأوسط بواسطة الاستعمار القديم، ومده بالحياة من قِبل دول الاستعمار الجديد، خلال العقود السبعة المنصرمة، كان ولم يزل الهدف منه إيجاد بُؤرة مستديمة لصراع يُهدفُ منه تجريف ثروات المنطقة وطمس هويتها التاريخية؛ ولهذا السبب لم تخرج المنطقة من دوامة الحروب والأزمات منذ وقت هذا الاستنبات، بل تضاعف هذا المشكل، بتحويل الصراع - المخطط له بعناية - إلى صراع دِيني منفلت تغذّيه القِوى المهيمنة، لتشتيت سؤال الاحتلال وعنصريته.
الأعداد، التي لا تُذكر من الكُتاب والصحافيين والفنانين الذين باركوا التطبيع، وقاموا بزيارات سريّة وعلنيّة إلى الداخل الفلسطيني خلال العقود الأربعة، دعماً للتطبيع، جُوبهوا بتجريم صارخ من المجتمع، وعاشوا مراحل طويلة من العزلة والتحقير، رغم المحاولات العديدة والمكلفة لإعادة تنصيع صورهم من قِبل النظام ودوائره المؤثرة.
ويقفز إلى البال هنا اسمان على الأقل من ذلك الزمن، هما: علي سالم، الكاتب المسرحي ومؤلف المسرحية الكوميدية الشهيرة "مدرسة المشاغبين"، وأنيس منصور "الكاتب الصحافي اللامع".
وكان لمجرد ظهور فنان أو كاتب أو صحافي في صورة مع شخص إسرائيلي، أو شارك في مهرجان به إسرائيليون، أو تعاون مع منتجين لهم صلة -قريبة كانت أو بعيدة- بالكيان الصهيوني، لا يسلم من النّقد والتحقير والحطّ من كل تاريخه، والأمثلة كثيرة على ذلك (محمد رمضان، وعمرو ذياب، وخالد النبوي، وصابر الرباعي، وبسمة، وخالد أبو النجاة).
عُرف عن الشعب المصري العظيم عاطفته الكبيرة، وتأثير الإعلام الرسمي في وعيه وصناعة نماذجه وقضاياه، لكنه مع موضوع التطبيع، مع الكيان الغاصب، لم يستطع عمل أي اختراق في هذا الوعي، لأن القيمة الأخلاقية في هذا الجانب غير خاضعة للمساومة مطلقاً، فبقي التطبيع محصوراً في الجانب الدبلوماسي والسياسي فقط، ولم يتغلغل إلى بُنى المجتمع الثقافية والاقتصادية.
فكلنا يتذكّر، على سبيل المثال، قضايا وزير الزراعة المصري في الثمانينات (يوسف والي)، وموضوعات الأسمدة و'التقاوى' والبذور الإسرائيلية، التي كشفت التحقيقات فيها نتائج صادمة، وكان الهدف من مؤامرة إدخالها إلى مصر تدمير الزراعة المصرية والصناعات الغذائية فيها، وأثبتت دراسات عديدة أنه قد تم استخدام أسمدة مسمومة، وهي شبيهة بالأسمدة التي يتم إدخالها أو تهريبها إلى الداخل اليمني اليوم من قِبل شركات يمتلكها أشخاص قريبون من سلطة الأمر الواقع، وتُعرف هذه الأسمدة بالبودر الإسرائيلي سريع الأثر.
أغلبنا يتذكّر عُقود الغاز المجحفة، التي وقعتها الحكومة المصرية مع الحكومة الإسرائيلية في العام 2005م، بواسطة سماسرة ورجال أعمال جشعين مرتبطين بالسلطة، غير أن انتفاضة الإعلام والتصعيد القضائي ضدها في أكثر من مستوى تقاضي في المحكمة الإدارية العليا في مجلس الدولة بمصر، خلال ست سنوات، حشر الحكومة في الزاوية الضيّقة، وجعلها تتخذ قرارات مراجعة معمّقة بهذا الشأن.
في العام 2016 "دعا عضو البرلمان المصري توفيق عكاشة السفير الإسرائيلي في القاهرة إلى العشاء في منزله، فوُجهت إليه تُهم تتعلق بالمساس بالأمن القومي المصري، وعلى إثرها أسقطت عضويّته من البرلمان على الفور بتصويت ثلثي النواب المحسوبين على الحكومة المطبّعة أصلاً".
باختصار النقابات المهنية والاتحادات الإبداعية في مصر تحظر -بواسطة مواد قانونية في أنظمتها الداخلية ولوائحها- أي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل، لهذا غدا التطبيع -بعد أكثر من أربعين عاماً- فاشلاً، ليس من وِجهة نظر الشارع المصري ولا نخَبه الثقافية والسياسية، وإنما في تقييم الدوائر السياسية والاستخباراتية الإسرائيلية والأمريكية والغربية.
النظام الأردني، وهو ثاني المطبّعين مع الكيان الصهيوني في العام 1994م (اتفاق وادي عربة)، لم يستطع جرّ الشارع إلى مباركة سلامه الشائه مع الكيان اللقيط، فلم تزل مكوِّنات المجتمع وشرائحه ونخبه تسجِّل مواقف قويّة لمناهضة التطبيع، رغم الإغراءات الكثيرة والكبيرة التي تُقدَّم للرموز الثقافية والفنية الأردنية للسير في هذا الطريق.
جاء في تقرير اقتصادي نُشر في مطلع ديسمبر 2019 تحت عنوان "انحسار التطبيع في الأردن: الحملات الشعبية تحجّم التجارة مع الاحتلال الإسرائيلي":
"يُشكل الموقف الشعبي الأردني الرافض للتطبيع الاقتصادي مع الاحتلال الإسرائيلي رغم الارتباط على المستوى الرسمي بين الجانبين باتفاقية سلام مع عمّان منذ عام 1995، حالة قلق دائمة للكيان الصهيوني الذي لم تُفلح كافة جهوده بإقامة علاقات اقتصادية طبيعية، رغم مرور كل هذه السنوات من التطبيع الرسمي. كشفت أرقام رسمية أردنية عن تواضع حجم التجارة بين الأردن والاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2014 وحتى الآن، بما لا يتجاوز 100 مليون دولار خلال نحو 5 سنوات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن جانبا من التجارة طرفه الآخر المقابل للأردن عرب من أراضي 48، أو من داخل المستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة" (العربي الجديد).
حتى المغرب -صاحب العلاقات الطويلة مع الإسرائيليين- دائماً ما يبرر مثل هذه العلاقة (بشكلها غير المُعلن في الأربعة عقود الماضية، والمُعلن في العام الفائت) بوجود جالية يهودية كبيرة من أصول مغاربية تعيش في فلسطين المحتلة، وإن الاستنفاع الاقتصادي من أموال الجالية وتجاراتهم البينية في دولة المغرب هما السابقان على السياسة.
(2)
وبالمقابل لم تمضِ أيام قلائل على إعلان بعض مشيخات 'الرّمل' ودولها الكرتونية إقامة علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني، حتى أطلّ علينا مجموعة من الإعلاميين والسياسيين الفارغين يباركون هذه الخطوات، ويحشدون -من خلال برامجهم- الدّعم للتطبيع، وما لم تفعله دُول الأردن ومصر والمغرب، خلال العقود الأربعة، فعلته الدوائر الرسمية في هذه البلدان الهُلامية، باستضافتها فرقا فنية ورياضية ورجال أعمال في أربعة أيام، وعلى عجل. مثلاً: شكّلت إحدى إمارات 'الرّمل' فريقاً رياضياً للعبة لم تُمارس في الأصل على أرضها البائسة، وهي لعبة 'الرجبي' من أجل مقابلة فريق إسرائيلي، وسط احتفاء مقزِّز، وإنّ انهزام فريق الإمارة بنتيجة ثلاثة وثلاثين نقطة مقابل لا شيء من النقاط أمام الفريق الإسرائيلي كان تعبيراً جلياً عن هذا الانبطاح الساذج.
عمل دُعاة التطبيع الخليجيون من مهرجين محسوبين على المشاهدين إعلاميين ومحللين (أنور عشقي، فهد الشليمي، ضاحي خلفان، فجر السعيد، عبدالله الهدلق) وتوابعهم الرخيصون في المنطقة (هاني بن بريك) على التقليل من شأن القضية الفلسطينية، وحملوا المتمسكين بنبْلها كل الكوارث التي حلّت بالمنطقة، وأعطوا الحق كله للمغتصبين وشذاذ الآفاق، وبرروا لآلات القتل الجهنمية التي تمارسها السلطة العنصرية ضد النساء والأطفال والعزّل في غزة والضفّة ومدن الداخل الفلسطيني، وحاولوا -بقراءات مخاتلة ومراوغة- تحميل فصائل التشدد الدّيني في غزّة كل الكارثة التي يعيشها الفلسطينيون، من تجويع وتهجير وقتل واعتقال.
في رسالة منسوبة للمناضلة الفلسطينية حنان عشرواي، مُوجهة إلى أبرز غُلاة الانبطاح والتطبيع في الخليج (بن زائد)، تقول فيها: "هل سمعت بحجز جثامين الشهداء الفلسطينيين لمدة تزيد أحياناً عن ثلاثة أشهر، وإعادتها مثلّجة بعد منتصف الليل، وإجبار أهل الفقيد على دفنه فوراً؟ وهل سمعت في التاريخ أن كياناً يجبر صاحب البيت الذي قرروا هدمه بأن يهدم بيته بيديه؟
هل تعلم أن المستوطنين ينتظرون ساعة قطف الزيتون (عصب الاقتصاد الفلسطيني)، فينزلون بسلاحهم تحت حماية الجيش، ويجمعون الغِلّة وكأنها من زراعة أيديهم ثم يحرقون الشجر ويخرجون؟ هل سمعت ببلد يُمارس هذه الساديّة في القهر مثل هذا الكيان المسخ؟ هل سمعت على مرّ التاريخ بمحكمة عسكرية تُحاكم الأطفال دون سنّ السادسة عشرة؟
هؤلاء الفلسطينيون هم أبناء عِرقك ودِينك ولغتك وتاريخك وحضارتك، وأنت تعرفهم جيداً لأنهم ساهموا في بناء بلدك، وعلَّموا تلاميذها، وعالجوا مرضاها، وأناروا شوارعها، وأداروا بنوكها وشركاتها، وشيّدوا أبراجها".
مع كل مناسبة دمويّة يعيشها الفلسطينيون تبدأ حملة المساءلة الشعبية للأنظمة العربية المتواطِئة مع النظام، ولماذا لا تعمل على الدّعم الصريح لنضالات الفلسطينيين وتضحياتهم، وهذه المرة يضاف إلى هذه التساؤلات حالة جديدة تتمثل بمساءلة ما يسمى بمحور المقاومة، ومن ورائه النظام الإيراني الضامن، ولماذا لا يخوض المعركة، التي ما انفك يبشّر بها؟ فيأتي الجواب: أن مقاتلي فصائل الدّاخل بمدافعهم وصواريخهم ومسيَّراتهم التي يقصفون بها التجمّعات الإسرائيلية، هي ثمار تعاونهم مع محور المقاومة، وراعيها النظام الإيراني.
محور المقاومة البائس حوَّل القضية الفلسطينية إلى مشروع للمزايدة والتكسّب، كما هو حاصل اليوم في اليمن من قِبل الوكيل المستشرس، الذي يطالب بجمع تبرّعات من الشعب الجائع لدعم الفلسطينيين، وكل ما في الأمر أن هذه التبرّعات لن تذهب للفلسطينيين وإنما لدعم المشروع السُّلالي، تماماً كما كان يفعل من سبقهم مع موضوعات الجهاد في أفغانستان، والشيشان، والبوسنة والهرسك.