مقالات
عن تعز المُحَاصَرة والمُختطَفة في آن!!
حتى يوم كتابة هذه المادة، لم تفضِ عملية التفاوض لفتح معابر مدينة تعز المحاصرة إلى أي نتيجة، بسبب تصلّب الحوثيين، الذين يجدون في كل مرّة مبرراً لتشديد الحصار على المدينة.. يفاوضون على قضايا لم تتضمنها اتفاقية الهدنة، التي بدأ سريانها في الثاني من أبريل الماضي، حتى يبقون حصار المدينة قائماً ومن ثلاثة اتجاهات حيوية.
يعطون الوعود المراوغة بفتح ممر واحد اسمه منفذ "غراب"، شمال غرب المدينة، ويرفضون بتاتاً فتح أهم الممرات، وهو الممر الشرقي للمدينة (الحوبان) بحجج كثيرة، منها كثافة الألغام التي زرعوها بأنفسهم.
أما المنفذ، الذي يريدون فتحه، فيصفه أحد الأصدقاء بقوله: "هو الخط الوعر الموازي للستين من جهة الحوبان إلى خط شرعب، ثم المفرق وصولاً إلى منطقة الربيعي، وعبر خط وعر يصل الربيعي بالضباب، وهو أقل خطورة من الخطوط الحالية، ويستغرق قطعه ساعتين ونصف بالسيارة "الدَّبل".. يتفرّع من منفذ غراب خط إلى مدينة القاعدة وخط ثانٍ إلى إب، كلها خطوط وعرة. ويلتقي بهذا الخط خط ثالث من منطقة هجدة، يلتقي بدوره مع خط آخر يأتي من الأخلود، وكل هذه الخطوط تستخدم للتهريب، منذ سنوات طويلة.
الحوثيون لا يريدون فتح الممر السهل والسريع شرق المدينة، ولا بقية الممرات، لسببين اثنين: الأول الإبقاء على حصار المدينة فعلاً، كون الممرات التي وعدوا بفتحها هامشية تماماً، ورغبتهم في أن يكون منفذ الحوبان ورقة ضغط مستديمة بيدهم للتفاوض بها على قضايا أكبر، يحصلون بموجبها على تنازلات متكررة من الطرف الحكومي ودول التحالف والأمم المتحدة، كما اعتادوا دائماً.
الثاني، وهو الأهم: أنهم يريدون أن تبقى المنطقة الشرقية للمدينة (منطقة الحوبان) كياناً وعاصمة مستقلة للمحافظة، التي لا يزالون يسيطرون على 40% من ريفها الشرقي (ماوية ومجاوراتها) والشمالي (شرعب والمخلاف) والجنوبي (الراهدة وحيفان ومجاوراتها)، ومورد جباية لا ينضب، كون المنطقة الصناعية لمجموعة بيت هائل سعيد أنعم، بالإضافة إلى معامل أخرى توجد في هذه المنطقة، ومن السهولة وضع ملاكها تحت الضغط الدائم، وعرضة للابتزاز.
المناطق، التي يُتحكم بها من الحوبان، ولم تزل تحت سيطرة الحوثيين، يسهل الوصول إليها، بسبب شبكة الطرق المعبَّدة والممهدة، أما الطريق الوحيد الذي يربط المدينة المحاصرة بالعاصمة المؤقتة عدن خارج الخدمة تماماً (طريق تعز التربة مروراً بطريق هيجة العبد وصولاً إلى طور الباحة)، ويقتضي من سالكيه الساعات الطوال لقطعه، بسبب وعورته وضيقه، وكثرة حوادث ناقلات شحن البضائع في طُرقه الضيِّقة الصعبة.
يُفرض على كل القادمين من صنعاء وإب، ومن الحوبان نفسها، وكل من يريد الوصول إلى قلب المدينة والأرياف الغربية والجنوبية في "المعافر والشمايتين والمواسط والوازعية وصبر وغيرها"، أن يقطع مسافات وعرة وشاقة وبمركبات قوية وقديمة تستغرق ساعات طويلة للوصول إلى وجهته.
كاتب هذه السطور، وفي أربع مناسبات فقط منذ اشتعال الحرب وحصار المدينة، وصل إلى قريته الكائنة بالقرب من مركز مديرية الشمايتين (التربة) بمتوسط خمسة عشر ساعة، وبتكاليف نقل باهظة، بعد أن كان يقطعها قبيل الحرب بسبع ساعات فقط.
مرموز المدينة والمحافظة، بشكل عام عند أطراف الحرب مجتمعين، يجعلها مستهدفة باستمرار لمواقفها الوطنية في تاريخ اليمن المعاصر، فلا هي صارت شمال الجنوب عند أولئك، ولا جنوب الشمال عند هؤلاء، وإن الانقسامات الشديدة داخل نخبها سهَّل على الأطراف المتضررة من حضورها الوطني أن تعمل بشتَّى الوسائل أن تبقى على حالها البائس، لتدفع في كل وقت ثمن مواقفها المنحازة لمشروع الجمهورية، ورفضها للمشروعات الصغيرة المستنبتة في جسم المشروع الوطني الكبير بما فيها مشاريع التجزئة والتفتيت.
وغير الطرف، الذي يحاصرها من الخارج، ثمة طرف يختطفها في الداخل، ويستخدم لافتة الحصار للاستثمار والمتاجرة في الآم أبنائها؛ فقد عمل هذا الطرف المتدثر بالمقاومة، منذ بداية الحرب، أن تكون مدينة تعز ضمن قسمته على الأرض مع محافظات شبوة ومأرب، بعد أن انحسر دوره وحضوره الرمزي في المحافظات الشمالية بعد الانقلاب الحوثي وسيطرة الجماعة الانقلابية على المناطق الحيوية، التي كان يتواجد فيها الحزب في عمران وحجة وصنعاء وإب والجوف والمحويت والحديدة، وانحسار دوره أيضاً في المحافظات الجنوبية، وخصوصاً في عدن ولحج وأبين والضالع وسقطرى وساحل حضرموت، بعد سيطرة المجلس الانتقالي عليها، وبرغبة إماراتية، كانت ولم تزل ترى في جماعة الإخوان المسلمين (حزب الإصلاح) عدوّها الأوحد.
الحوثيون انفردوا بشمال اليمن وجزء كبير من وسطه وغربه بقوة السلاح الذي سهّل صالح وصوله إليهم، والمجلس الانتقالي سيطر على الجنوب - في سعيه الدؤوب لاستعادة دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بمسمى تفكيكي فرضه الاستعمار الانجليزي (الجنوب العربي)، وبقايا عائلة صالح مكّنتهم الإمارات من الساحل الغربي حيث التأسيس الرمزي والتاريخي لسلطة صالح، ولم يتبق أمام حزب الإصلاح - بوصفه قوى فاعلة وبأذرع عسكرية مثل بقية الأطراف المتقاسمة - غير الحفاظ على حضوره في تعز ومأرب، بعد أن فقد، في الأشهر الماضية، محافظة شبوة، وبفقده للأخيرة صار أكثر تشبثاً بتعز لرمزيتها الكبيرة داخل المعادلة السياسية من جهة، ولوقوده البشري الكبير فيها، الذي راكمه بالتوارث عبر جماعة الإخوان المسلمين منذ عقود طويلة.
هذا التشبث صار مع الأيام اختطافاً لقرارها ومواردها وإدارتها التنفيذية والعسكرية برغبة وإصرار حقيقي من طرف فاعل داخل بنية الشرعية، ومرتبط بالمركز المقدّس وهضبته.
فالجماعات المنفلتة في المدينة وبعض أريافها والمعروفة في التداول الشعبي بـ"جماعة المفصعين"، التي تتكسب من الفوضى والنهب والتعديات على الأملاك الخاصة والعامة أكثر قياداتها الميدانية محسوبة على مراكز القوى الإصلاحية.
الفاسدون في الإدارة التنفيذية العليا في المحافظة والمديريات محسوبون على الحزب، أو من الموالين له في التكوينات السياسية الأخرى.
قيادة المحور العسكري ومستشارها (الحاكم الفعلي للمدينة)، وقادة الألوية والمعسكرات التي فرضها الحزب، منشغلة بنهب الأراضي والمساكن وكشوف الجنود الوهميين، ولهذا السبب صار استكمال تحرير المحافظة ليس في حسبانها، ما دامت هذه الأوضاع تخدمهم وتكسِّبهم ذهباً.
حتى رموز التيار المتشدد في المدينة، الذين لم تهمد خطبهم، منذ سنوات، وتتخذ من التكفير والتحريض منطلقاً لترهيب الناشطات والناشطين العاملين في المجال العام، وإسكات صوت التوجّهات المدنية السلمية، وتسفيه وتحقير الأنشطة الثقافية التي تحتضنها المدينة، في سعيها المقاوم من أجل الحياة، محسوبة على هذا الحزب.
تعز اليوم رهينة بأيدى المتصارعين الذين يعمّقون، يوماً بعد آخر، من انقسام نخبها؛ حتى الأحزاب المدنية في البلاد، ينتسب أكثر قياداتها لهذه المحافظة، صارت هي الأخرى جزءاً من هذه اللعبة القذرة، وتتكسب من هذا الوضع المشين.
فهل من منقذ لهذه المحافظة المُحَاصرة والمختطفة من قوى الإعاقة التاريخية (الإصلاحوثية)؟!