مقالات
عن حمامة وغبَّاش وقرية 'الرحبة'
مجرى السَّيل الحجري، الذي شق منذ آلاف السنين صخور جبل "مجران السوعي" الحاضن لقرية "عُشرات"(*) الوادعة النائمة في حضنه الشمالي، قسَّم القرية إلى جهتين متباينتين، الأولى صغيرة ومرتفعة قليلاً عن باقي القرية في الجهة الغربية من المجرى، والأخرى منحدرة بشكل عرضي حتى أسفل الوادي من جهة الشرق، الأولى صار اسمها قرية "الرحبة"، نسبة للأكمة التي تحتمي بها، وسكنتها منذ عقود طويلة أُسر مهمّشة سمراء، والأخرى احتفظت باسمها الشائع (قرية عُشرات). ولحواريها وأزقتها مسمّيات متعددة في أطار مسمّى القرية العام، ويُطلق سكان الرحبة على باقي سكان القرية لقب "القبائل والأسياد والبيض"، في سياق التعريف.
وعلى غير بقية الأُسر المهمّشة في المنطقة ومجاوراتها بقي سكان قرية "الرحبة" ينحتون حضورهم في حياة المجتمع القروي البسيط، بوصفهم قوى عمل منتجة، يزالون أعمال البناء والفلاحة والمهن المدرّة للدخل، ونشر البهجة في الأفراح، وإن العديد منهم كانوا في السبعينات جزءا من حركة الاغتراب في الجوار السعودي، والبعض منهم لم يزل يعمل في المناطق الحدودية (رازح)، وإن أبناءهم حظوا بتعليم معقول في مدارس المنطقة، ونساؤهم لم يزلن يعملن في البيوت والحقول.
ومنهم من تسيّس وصار ضمن قوى اليسار والجبهة الوطنية كالرفيق أحمد الحديبي.
منذ كُنا صغاراً لم نشعر بهذه التمايزات العرقية مطلقاً، وشخصياً كان لي العديد من الأصدقاء الرائعين، منهم الذين لعبت معهم، وأكلت في موائدهم "عصيدة" في المغارب التي كانت تُحضَّر على عجل، عند عودة الآباء من أعمالهم في القرى المجاورة بعد يوم شاق، فكانت اللمّة تمنح الأكل لذّة غير متناهية، وكنت أستغرب من تأفف الكثيرين من مشاركة أصدقائي الصغار أكلهم للعصيدة اللذيذة في ساقية الرَّحبة..
كان غبَّاش علي زيد، الذي توفي مساء 17/آب2021، يشكِّل حالة متفرِّدة من الحضور في حياة سكان مجتمع "الرحبة"، لكثير من الأسباب: فهو مزيِّن المنطقة، وختَّان أبنائها، وحجَّام رجالها المسنين، وقلاَّع ضروسهم المسوِّسة.
قرى "بني شيبة" في شرقها وغربها تعرفة، ولم تكن تولم معظم الأسر، وتختن لأطفالها، خصوصاً في "بني شيبة" الغرب إلاَّ بحضوره، وقد كنا نشاهد الرُسل وهم ينزلون من جبل "ظفار" لإبلاغه بمواعيد الأعراس والختان في القرى البعيدة. وبعد أيام نراه بملابسه البيضاء والنظيفة، وبجرابه الجلدي، يتقدّم فرقته من النساء والرجال، وهم يحملون طبولهم ومرافعهم أثناء صعودهم جبل "ظفار" للوصول إلى قرى الغرب الشيباني. وحينما يعودون بعد أيام يكونون بمنتهى السعادة، لأن الكرَم عند أصحاب الولائم هناك كان واضحاً، وليس هناك من يقاسمهم الغِلة من ذوي مهنتهم في تلك القرى.
كان رجلاً مهاباً عند أهل فِئته، وكبيرها، الذي يمارس دوراً مرجعياً مُهما عند الخصومات والشجارات، يتفاخر بأبنائه وأقربائه العديدين، الذي يشكِّلون حضورا مختلفاً بمهنهم المدرَّة للربح، فهذا سائق، وذاك بنَّاء، والثالث يعمل في الحدود، والرابع صاحب دكان.
بقي لسنوات طويلة في قرية "الرحبة"، يسكن داراً مميزةً عن بقية البيوت فيها، وحين تزوَّج، ذات صيف مُمطر، بصبيَّة في العشرين من ذات الفِئة جلبها من منطقة بعيدة، صار حديث كل المنطقة، ليس لفكرة زواجه المباغت، وليس لفارق السنّ بين الزوجين، وإنما لبشرة العروس المائلة إلى البياض. التي لم تتشابه بها بشرات "الرحبيات" السمراوات.
بعد عامين من الزواج، الذي أثمر طفلين جديدين في العائلة، ضاقت به القرية، فاستحدث قرية بعيدة ومفتوحة على الجهات كلها تسمى "القِحاف"، في أوقاف "الطيار المسني"، وأنبت داراً بحجار بيضاء تشارك ببنائها أبناؤه وأقرباؤه، وصارت بعد ثلاثين عاماً قرية كبيرة لها مسجدها وطريقها المستوي، وإليها وفد أبناؤه وأحفاده وعمَّروها، فصارت تُعرف ب"قحاف غباش"، التي صار يسكنها أحفاد أهل "الرحبة".
لم يكتفِ بزوجته الصغيرة البيضاء، بل تزوّج بعدها خمس فتيات، كان يجلبهن من مناطق بعيدة، يذهب إليها باعتباره واجهة للفئة، وطبيباً، وشيخَ طريقةٍ.
ولده الأكبر (سعيد غباش)، الذي تُوفي قبل سنوات بحادث مؤلم، كان خليفته البسيط، يتقدّم الأعراس بطاسته المميَّزة، ويتمشقر بالريالات، وكان يرقص على إيقاعات طاسته وطبوله الصغار والكبار، كان أيضاً بنَّاء محترفاً، وله تاريخ مع موجة الاغتراب في السبعينات، الذي عاد منه -ذات وقت بعيد- بهيئة جديدة ولسان أهل الحجاز، ومن عائدها فتح دكاناً بالقرب من "ديلوكس" في مدينة تعز قبل أن يعود إلى طاسته ومرافِعه و"أزاميله القرية".
بقت (حمامة) الزوجة الأولى لغباش- توفيت من ثلاث سنوات- هي الوجه الآخر لعُملة العائلة، ومدماك بيتها القوي، هي أم أولاده الكبار وساعده الأيمن، مغنّية الأعراس ومسيِّرة الولائم، كانت حينما تتخلّى عن دُفها الأثير لإحدى بناتها أو حفيداتها الصغيرات في الولائم والمناسبات الضاجّة، تقوم لترقص على الرزين (الإيقاعات البطيئة) أو تحمل فرعاً أخضر من أي شجرة مُورقة تجدها في طريق المولِمين (أثناء الزفّة)، وترقص بها، وبالطريقة ذاتها كانت تزف بها أيضاً ضرائرها الصغيرات على زوجها المُسن.
كانت تشيع البهجة في القرية، وتحيل كل حادثة إلى لحظة من المرح، مثلاً: كانت تخرج إلى سقف دارها القديمة وتقوم بضرب دفِّها وتغنّي وترقص، لأن واحدة من بناتها عصت لها أمراً، أو لأن الغداء لم يقدّم بموعده، أو لسماعها ملانسات بين النساء في محيطها.
كانت حكَّاءة عجيبة للنوادر وقصص المسكوت عنه، وتحفظ من الأغاني والمهاجل الكثير، وشكَّلت مع "سعادة" و"الحديبية" ثلاثي غنائي شهير في المنطقة، لم تزلْ أصواتهن تأخذني عبر الزمن إلى نصف قرن، حينما كنا نستطعم الحياة ببساطتها، وهي ترفل بدُف هؤلاء وأمثالهم..
________________________________
(*) قرية الكاتب في شرق "بني شيبة".