مقالات
عن خمسة أيام في بيروت!! (1-2)
في منتصف سبتمبر 2004، وصلنا بيروت (عبد الباري طاهر، د سلطان الصريمي، أنا) عن طريق جبل لبنان قادمين من دمشق، مع مرافق سوري بسيارة صغيرة، كانت تحت تصرفنا بوصفنا وفدا يمثل اليمن في الذكرى الخمسين لتأسيس اتحاد الكُتاب العرب، بعد أن تعذَّر إقامة فعالية مصاحبة في بيروت بسبب الاحتقان الشديد بين العاصمتين قبل أشهر من اغتيال الحريري، فقررنا -ثلاثتنا- الذهاب في زيارة شخصية، وبموافقة اللجنة المنظمة للمهرجان.
انحدرت بنا السيارة من الجبل الجميل، عبر "بحمدون"، مباشرة إلى البحر؛ وتحديداً إلى "الروشة"، حيث كان أول جلوس لنا على مقهى بمقابل أهم معلم بحري في المدينة. انتقلنا بعدها إلى نُزل متواضع في منطقة "الحمراء"، ثم سجلنا زيارة خاطفة لمقر صحيفة "السفير"، حيث قابلنا الشاعر والكاتب عباس بيضون.
في ساعات من الليل، بقينا نتنفَّس ليل بيروت، المستبطن في القراءات، وكانت بالنسبة لباري رحلة لاستعادة المكان الذي عاش به مطلع الثمانينات، حينما كان مطارداً من أجهزة الأمن اليمنية. وفي نهار اليوم التالي، جِلنا في المدينة بالسيارة، وزرنا بعض المكتبات، قبل أن نعود أدراجنا إلى دمشق عن طريق البقاع بالكيفية ذاتها التي غادرناها.
(**)
في 20 فبراير 2023، وبعد قرابة عشرين عاما، عدت إلى بيروت عبر القاهرة؛ للمشاركة في ملتقى شبكة فبراير الخامس ممثلاً لمنصة "خيوط" الإعلامية، ضمن عشرين منصة وموقعا إلكترونيا عربيا مستقلا. وصلتها مساءً عبر الخطوط المصرية.
ونحن نهِمّ بصعود الميكروباص، الذي أقلَّنا من بوابة مطار رفيق الحريري إلى الفندق، صاحت إحدى صحفيات منصة "مدى مصر"، وكانت برحلة المصرية نفسها، بصوت مرتفع بعد شعورها بهزة أرضية، جاء تأكيد حصولها بعد أقل من دقيقة من تواصل السائق بأسرته في الجبل، التي أكدت خبر الهزة، لكنها كانت عابرة وغير مؤثرة.
الأضواء الساطعة المحيطة بالمطار بدأت تخفت رويداً رويدا، ونحن نقطع الطريق في اتجاه قلب المدينة، ففسّر لي السائق "فادي" الأمر بحالة الكهرباء العمومية في المدينة التي تنقطع بشكل متكرر ولساعات طويلة.
شارع "الجميزة" البيروتي العتيق، حيث تستضاف الوفود في فنادقها وتنتظم فيه فعاليات الملتقى، قطعناه بعد وصولنا بوقت قصير، مشياً على الأقدام لنصف ساعة في مساء دافئ؛ من أجل الوصول إلى مطعم بسيط في شرقه، تناولنا فيه عشاء لبنانيا ببساطة المطعم ذاتها. محلات ومقاهي ومطاعم وحانات الشارع، التي مررنا على أرصفتها النظيفة، لم تكن مزدحمة مطلقاً.. أما التفسير الوحيد للحالة هو أن الغلاء المتفشي في البلاد، وبشكل منفلت، أوجد مثل هذا الوضع في مدينة عنوانها الأبرز "السهر".
بعد عشاء بسيط، وجلسة تعارف أولى مع المشاركين، عدت برفقة الصديق حسن عباس -رئيس تحرير "رصيف 22"- إلى الفندق بالطريقة ذاتها.
وأكثر ما آلمني في رحلة العودة مصادفتي لكثير من المتسولين الصغار وأسرهم على الأرصفة، فعرفت أنهم من اللاجئين السوريين، غير أن ما يميِّزهم عن متسولينا الصغار وأسرهم أنهم أكثر نظافة، ويشحذون بواسطة الورود، والكلمات الناعمة.
أول شيء قمت به، في صباح الثلاثاء (22 فبراير)، هو المغادرة المبكرة للفندق، الذي يقع في منطقة الصيفي ببداية حي الجميزة، لاكتشاف المكان بقدمين شغوفتين، قادتاني إلى تخوم المرفأ المدمَّر، ثم العودة إلى ساحة الشهداء في وسط البلد، مروراً بالقرب من مبنى جريدة "النهار"، التي تتغطَّى واجهتها الشرقية بصورة رئيسها جبران غسان تويني، الذي اُغتيل في ديسمبر 2005.
آثار الدمار، الذي خلفه انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، لم تزل بائنة في كثير من مباني ومحلات المنطقة المحيطة، ولم تزل القبضة الشعبية منتصبة بشعار الثورة في ساحة الشهداء، ولم تزل بعض شعارات ثوار تشرين 2019 حاضرة في الجدران، وتحمل أكثرها تهكمات حادة ضد رموز الطوائف وإيران.
بعد أكثر من ساعة مشي، عدت إلى الفندق في الثامنة بالتوقيت اليمني المثبت في الهاتف، ولم تزل الحركة فيه ساكنة، فالوقت لا يزال مبكراً (السابعة بتوقيت لبنان). كان مطعم الفندق هو الآخر لم يزل مغلقاً.
كان أمامي ثلاث ساعات كاملة لموعد افتتاح الملتقى، وليس هناك من رفاق المساء أحد في بهو الفندق، فقررت المكوث في الغرفة؛ أشغل نفسي بتقليب محطات التليفزيون.
في التاسعة والنصف، تحركنا مشياً على الأقدام من الفندق إلى مبنى بيروتي قديم، شُيِّد بأحجار الجبل، وصُمم بطريقة القصور الكلاسيكية.. كان على بُعد سبع دقائق فقط من مكان الإقامة، وقادتنا إليه مجموعة من الملصقات الورقية التي ثبتت على الجدران المحاذية حتى مدخل الشارع الضيق المؤدي إليه.
تحوَّل هذا القصر، وبقليل من اللمسات الجمالية، إلى واحد من أشهر بيوتات الفن في المنطقة، التي تعج بغيره أيضاً، غير أن ما يميِّزه عن البقية هو طابعه الكلاسيكي الراقي، بدرجِه ومصطباته الحجرية، وعقوده القصيرة، وأفاريزه ومدخله الذي يفضي إلى حديقة ومسبح، وقاعة بسيطة أنيقة يُدلف إليها عبر باب خشبي قديم وصغير، يشبه أبواب الحوانيت والبيوت القديمة في المدن والأسواق اليمنية.
في حديقة المبنى أشجار زينة وورد جوري، وشجرتا برتقال مثقلتان بالفاكهة الطازجة، وشجرة ليمون ونخلة، وجذوع أشجار اصطناعية وزَّعت بشكل بديع على أطراف المسبح، وزُيِّنت بمصابيح صغيرة، حتى إذا ما ااشعلت في المساء أعطت المكان بهاء خالصاً.
وفي بدروم المبنى المنظم والمضاء بإتقان ممرات طويلة لعرض اللوحات، وأكثر من محترف تعليم للطلاب المبتدئين.
أكثر من أربعين صحفية وصحفي شاب من عشرين منصة وموقع إلكتروني من الوطن العربي؛ مثل: "درج" و"الجمهورية" و"ميغا فون" و"مدى مصر" و"انكفادة" و"الحداثة" و"منشور" و"منصة" و"رصيف 22" و"خط 30" و"جُمار" و"بيرو" و"صوت"، و"الحدود" و"نواة" و"توالي" و"فسحة" و"حكاية ما انحكت" و"مصدر عام" و"خطيرة" من تونس والجزائر وليبيا ومصر وفلسطين والأردن والعراق ولبنان والكويت والسودان واليمن، ومن الشتات العربي في أوروبا تجمعوا في القاعة لعرض تجارب الوسائل التي ينتمون إليها ويمثلونها، في الملتقي الخامس. وكنت أكبر الحاضرين سناً، فأطلق عليَّ الصديق عمر الجفال -رئيس تحرير منصة "جُمار"- لقب العُمدة.
كنت ثاني المتحدثين في الجلسة الافتتاحية عن تجربة منصة "خيوط" في تعاطيها مع موضوع التعليم في اليمن، الذي تعرض -في السنوات الماضية- لكثير من التدمير والانتهاك من قِبل أطراف الحرب، الذين عملوا بأدوات أكثر صلابة وقسوة من تلك التي استخدمها من سبقهم من الحكام؛ فحوّلوا المدارس إلى ثكنات عسكرية ومتارس حرب، والطلاب الصغار إلى مجاهدين في الجبهات، والمعلمين إلى متسوِّلين، والمرتبطين منهم بقيادات المليشيات شمالاً وجنوباً إلى قادة عسكريين ومشرفين، والمناهج الدراسية إلى ملازم سياسية، بعد تجريف محتواها لصالح خطابات التعبئة والتحشيد.
"يتبع"