مقالات

غزة.. أين الخلل؟

16/08/2025, 12:05:59

أكان يستطيع الكيان النازي أن يرتكب المجازر البربرية التي ارتكبها ولا يزال، لو أن الدول العربية ديمقراطية؟
أكاد أجزم أنه ما كان ليستطيع!
بل أكاد أجزم بذلك حتى لو كانت الدول العربية الديمقراطية أربعًا فقط، وتحديدًا: مصر، السعودية، الأردن، وسوريا!

هناك إجماع على ضعف الدول العربية. الواقع يشهد بذلك. لم يسبق للكيان أن ارتكب من الجرائم ما يرتكبه اليوم، ولم يسبق للعرب أن كان موقفهم مخزيًا وملحقًا بالعار كموقفهم من هذه الجريمة تحديدًا.
أقصى درجات الإجرام قوبلت بأقصى درجات الضعف!
أقصى الغطرسة قوبلت بالموقف الأكثر خزيًا...

الدول العربية ضعيفة، لا لأنها تفتقر إلى الإمكانات المادية أو الموارد الاقتصادية أو الجيوش والعتاد العسكري، فهي في كل هذه العناصر إما ثرية وقوية أو على الأقل متوسطة القوة والإمكانات،
بل لأنها تسلطية، غير ديمقراطية.

الإمكانات والموارد وقوة الجيوش وكثرة العتاد وتقدمه، لم تكن يومًا شرطًا أساسيًا لمقاومة الاحتلال والانتصار عليه.
لو كانت الإمكانات المادية شرطًا لانتصار حركات التحرر، لما تحرر شعب في هذا العالم.

في المجازر الأخيرة المرتكبة ضد غزة، لم يُطلب ولم يكن مطلوبًا من البلدان العربية أن ترسل جيوشها لمحاربة الكيان، ما قد يستوجب ربما النظر في الإمكانات المادية وقوة الجيوش.
ما كان مطلوبًا من البلدان العربية هو فقط إسناد الشعب الفلسطيني وحركاته التحررية بما يتوازى مع إمكاناتها وقدراتها الكبيرة:
إسناد سياسي فاعل وفعّال، واستخدام ماهر لورقة المصالح، وربما الإسناد المالي وتوفير حاجات المقاومين والسكان الحياتية التي تسمح لهم بالصمود، وتلحق بالعدو وحلفائه الأذى، وتكبح غطرستهم...

لكنها لم تفعل، ولم تجرؤ، لأنها لا تمتلك مهارة النظم الديمقراطية، ولا تمتلك – خلافًا للكيان – قوتها: قوة الديمقراطية.

المهارة بحد ذاتها قوة، ولا مهارة لنظام يتخذ القرار فيه شخص واحد، أو عِرق واحد، أو جماعة واحدة، أو سلالة واحدة.

الديمقراطيون ماهرون في إدارة الداخل، وماهرون في التعامل مع الخارج، وماهرون وأقوياء أيضًا في الحرب إن لم يكن بد منها.
"وإذا لم يكن من الموت بدٌّ، فمن العجز أن تموت جبانًا."
هذا شعار الأحرار، لا شعار الحكام المتسلطين، الخائفين من أعدائهم، المُخيفين شعوبهم.

بعض الأنظمة – ومنها الأنظمة العربية – تُضعف نفسها بنفسها. تكون إمكاناتها ومواردها وقدراتها عالية وكبيرة، ومع ذلك تتصرف تصرف الصغار.
سبب ذلك افتقارها للمهارة.

متى يكون النظام السياسي قويًا وماهرًا؟
حين يستمد شرعيته من الشعب.
شرعيته الشعبية تعني أن الشعب صار سنده القوي، وقاعدته الواسعة الضاربة.
وهل هناك ما هو أقوى من الشعب؟!
هل تكون قوة النظام المؤيد من فئة أو جماعة تشكل 5% من الشعب كمن حظي بالتأييد الطوعي من الشعب كله؟!

يصير النظام المنتخب قويًا لأن عروقه تصير بعدد أفراد الشعب، تنغرس في قلب كل شخص، سواء كان من منتخبيه أم من غير منتخبيه.
تكثر عروقه كالشجرة العظيمة، التي تكثر عروقها وتتغلغل عموديًا وتتسع أفقيًا.
معناه أن الشعب يكون سندًا له في قراراته وسياساته، وبالتأكيد مستعدًا للتضحية من أجله والدفاع عنه في حال تعرضه للخطر، لأنه – أي النظام أو السلطة – هو اختيار الشعب.
الشعب اختاره وكيّلًا عنه ليمارس السلطة نيابة عنه.
وهل يترك الوكيلُ وكيلَه للأعداء؟!

ويكون النظام قويًا حين يستمر الشعب في مراقبة السلطة ومحاسبتها، وعزلها إن اقتضى الأمر.
محاسبة الشعب للنظام تقوية للنظام وتعزيز له، وأهم من ذلك تقوية للدولة، وترسيخ لجذورها، وإزالة للشوائب التي تشوه وجهها.

انتخاب الشعب لحكامه بكامل الحرية والديمقراطية هو المصدر الأساس لقوة النظام.

لكن، لا يكون الشعب مصدرًا حقيقيًا لقوة النظام، إلا إذا كان الشعب نفسه قويًا.
ولا يكون قويًا إلا إذا كان حرًا،
ولا يكون حرًا إلا إذا تمتع باستقلال نسبي عن الدولة/السلطة.

برؤية أوسع قليلًا، النظام السياسي القوي حقًا هو الذي تكون مؤسساته الرسمية قوية، وفي ذات الوقت يكون مجتمعه قويًا.
والمجتمع القوي، كما سبق القول، هو الذي يتمتع بقدر من الاستقلال عن الدولة، لا التابع لها المهيمن عليه من قبلها.

النظم التسلطية اللاديمقراطية، لاسيما الشمولية، تلغي الحدود الفاصلة بينها وبين المجتمع.
تجعل المجتمع تابعًا لها.
تلزمه بخياراتها وثقافتها، ولا تسمح له باختيار شيء.
تعمل على تركيز عناصر قوة الدولة في السلطة.
تسلب المجتمع قوته وتلحقها بقوة السلطة، فتتضخم هذه الأخيرة تضخمًا مرضيًا.
وتعتقد أنها بهذا الاستتباع والتركيز للسلطة وإلغاء حرية المجتمع وخياراته، تزيد من قوة الدولة، وهي في الحقيقة تزيد – ظاهريًا – من قوة السلطة لا الدولة من ناحية، وتُضعف المجتمع، بل تُلغي وجوده وتُذيبه وتُصادره من ناحية أخرى.
وحين يصير المجتمع – وهو قاعدة النظام – ضعيفًا، تصير قاعدة النظام ضعيفة، أو يصير بلا قاعدة يستند إليها، ما يعني ضعفًا وهزالًا للنظام ذاته.
أما النتيجة النهائية، فهي ضعف الدولة بمجموعها.

غزة، وكل فلسطين، دفعت وتدفع ضريبة النظم السياسية العربية التي سارت في طريق الاستبداد منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
وربما صار مع فلسطين اليوم بلدان أخرى بدأت تدفع الضريبة ذاتها...
وليس يُعلم متى وأين سيتوقف هذا المسلسل، وقد صار الكيان يتحدث اليوم عن "إسرائيل الكبرى".

كلمة ختامية:
لا بد أنه قفز إلى ذهنك أن هناك قوى أو أنظمة لا صلة لها بالديمقراطية ومبادئ الحرية، ومع ذلك كان موقفها من غزة متقدمًا بكثير عن الأنظمة الأخرى.
لا يتسع المجال لمناقشة هذه المواقف وغيرها.
الإشارة المبدئية الممكنة هنا، أن الأفعال والمواقف جميعها يجب أن يُحكم عليها بالنظر إلى خلفياتها الباعثة، وأسبابها الدافعة، والجهة المستفيدة، والجهة الخاسرة، وحجم الربح، وحجم الخسارة...

وستظل قضية فلسطين – تحرير الأرض وتحرير الشعب – متأثرة كثيرًا، بل مرهونة، بثقافة "الساعين" للتحرر.
ومن لا يؤمن بحق شعبه في الحرية، لن يكون مخلصًا ولا صادقًا في "سعيه" لتحرير شعب بلد آخر.

مقالات

حين يصادرون مبادئك

يموت الشاعر أو الكاتب أو غيره من أرباب الفكر والقلم على مبدأ، فيتفاجأ كل محبيه بأن جماعة قد استولت على كل ما عاش يتجرّع المرَّ من أجله

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.