مقالات
غمامة سوداء مشبَّعة بأدخنة الحرائق!!
منذ فترة ليست بالطويلة، سألني أحد الأصدقاء القريبين: ماذا ترى في الأفق يا محمد؟
وبدون تفكير تقريباً كتبت له: غيمة سوداء مشبَّعة بأدخنة الحرائق!!
فرد علي بثلاث كلمات تنظمها ستة أحرف فقط "آح ثم آح"، ولم يزد عليها حرفاً. فأحسست بمدى ألمه وقهره من الحال الذي وصلنا إليه.. وكان قد عبَّر قبلها، هذا الصديق، عن هذه الحالة بسخط شديد على فاسدي السلطة بمشهد مرئي مؤلم، اختصر فيه حال المبدع اليمني غير المنحاز لأي من أطراف الصرع وهو يعيش حالة الشتات القهري في بلدان المعمورة المختلفة.
رأى بعض الزملاء والأصدقاء أن مثل هذه الرؤية التشاؤمية ينبغي ألاّ تسيطر على مشاعرنا وقناعاتنا، وينبغي أن نعظِّم من تلِّ الأمل، ولا نترك حفرة التشاؤم السحيقة تبتلعنا.
لم يدرِ مثل هؤلاء الأصحاب أن ثمة فرقا بين القراءة المجردة لما يجري، وبين رغباتنا العاطفية الجموحة في شيوع حالة السلام في البلاد -التي فككتها قوى الانتفاع من الحرب وتعاظمت مصالحها من استمرارها.
نعم، ثمة غيمة سوداء ثقيلة تحجب كل شيء في الأفق، وهذه الغمامة نتاج طبيعي لسنوات الحرب العبثية، ولن تنقشع في المدى القصير على الأقل بل ستزداد كثافة وقتامة، لأن طبخة اقتسام البلاد لم تستوِ بعد، وحتى بعد استوائها، وإن صمتت المدافع قليلاً، ستظهر هذه الغمامة من جديد وستحجب آفاقاً جديدة، لأن المشاكل التي قادت إلى هذا الوضع لم تحل، وإن مسألة الاقتراب منها صار بحكم المجرَّم بسبب المصالح المتشابكة التي أنتجت منظومة الحرب.
سنظل نكرر أن القوى المتناحرة على الأرض التي تتاجر بدم اليمنيين لا تمتلك مشروعاً وطنياً لإنقاذ البلاد، بسبب أنها استنبتت لأداء أدوار مشبوهة تحت لافتات مراوغة تستنفع منها، ولأنها صارت مع الوقت تعبِّر عن مصالح ضيّقة لتكوينات بداخلها، تعمل هي الأخرى لصالح قوى خارجية أكبر، ولا ترى أبعد من هذه المصالح، فليس من مصلحة الحركة الحوثية أن تنتهي الحرب، لأنها صُمِّمت لتكون أداة من أدوات الصراع الإقليمي المعقّد، وصارت مصالح صفها الأول مرتبطة بديمومة الحرب، وأي خطوات حقيقية نحو السلام ستعرِّيها وستكشف ظهرها ليس لخصومها فقط، وإنما لحلفائها القريبين، الذين سيكتشفون هول المآسي التي خلفها مشروع الحرب الذي خاضته باسمهم ودفعوا ثمنه من دم أبنائهم، دون أن يحققوا مكاسب وعودوا بها!!
شعارات الحرب، التي تتكتل تحتها، مكنتها من إحكام قبضتها على مساحات حيوية من الجغرافيا اليمنية في شمال البلاد وغربها ووسطها، وصارت تنتفع بمواردها الكثيرة والكبيرة في تقوية مشروعها ذي المنزع السلالي الفاقع، وتقوية، وتعزيز طبقة الحكم المصطفاة بداخله، ولا تلتفت إلى أي من القضايا الحقوقية للمجتمع منها التزاماتها الجوهرية، التي تخص مرتبات الموظفين والخدمات الأساسية في التعليم والتطبيب وخدمات المعيشة الأساسية (ماء وإنارة)، فقد قامت بتسليع مثل هذه الخدمات، ثم احتكارها وإعادة بيعها للمواطنين بواسطة شبكات ترتبط بالصف الأول للحركة.
هذه الحركة تبني مشرعها الاحتكاري في السياسة والاقتصاد والأمن بالطريقة ذاتها التي اتّبعها نظام صالح بتضييق دائرة حكمه في القريبين جداً من العائلة والمنطقة.. كيف؟
أشرت في أكثر من مناسبة إلى أن مشروع علي عبدالله صالح، الذي بدأ بشعارات "اليمننة" الكبيرة، انكشف بعد سنوات قليلة، حين انحصر هذا المشروع في القبيلة التي ينتمي إليها، فأسند لقبيلة "حاشد" أدوراً سياسية واقتصادية كبيرة على حساب غيرها وبدون وجه حق، انطلاقاً من ألعوبة "رئيس الشيخ وشيخ الرئيس"، وحين ارتخت قبضة الشيخ، وترهلت بنية سلطته وتأثيره بفعل الفساد الذي استشرى بداخلها، بدأ صالح يضيِّق دائرة الحكم في أبناء منطقة سنحان التي ينتمي إليها، فظهر القادة والوزراء ورجال الأعمال من المنطقة الصغيرة والهامشية، وحين كبُر الأبناء (العفاشيون) وتشعّبت مصالحهم، أُسندت إليهم أدوارٌ حيوية في مفاصل السلطة الاقتصادية والعسكرية والأمنية على حساب حلفائه القريبين، ولهذا حين بدأ تسريب مشروع التوريث داخل العائلة، انفجرت في وجهه قنبلة حلفائه السابقين في القبيلة والمنطقة.
على هذه الخطى يمضي الحوثيون، فقد بدأوا خطابهم بشعارات وطنية على قاعدة تحالفات سياسية وجهوية كبيرة؛ ثم تخلصوا من مواليهم الضعفاء، وحلفائهم المنكسرين، ليحصروا بعدها المواقع الحساسة في المؤسسات في المنتسبين للأسر الهاشمية، قبل أن يتم الفرز داخل هذه البنية بين نوعين من الهاشميين، ورويداً رويدا سلّموا قرار إدارة المؤسسات الحيوية للأكثر ولاء من المتشيّعين للعائلة الحوثية من محافظة صعدة وحجة، حتى تحوّلوا، في ظرف سنوات قليلة جداً، إلى "أوليغارشية" تُقدِّم مصالحها الخاصة على غيرها من مصالح المجتمع، وهذه البنية تتقوّى يوماً بعد يوم، سيصعب تفكيكها في حال أُنجزت التسوية لإنهاء الحرب.
أو كما تقول الباحثة ميساء شجاع الدين:
"لقد نشرت الجماعة عقيدة طائفية، وأنشأت جيشاً كبيراً، وأنشأت شبكة واسعة من المشرفين فوق الحكوميين، مما أدى إلى توسيع الفجوة بين المجتمع والحكام. من الصعب تخيّل تفكك هذه الشبكة السياسية والاقتصادية الواسعة طواعية لتقاسم السلطة مع الفصائل اليمنية الأخرى"(*).
اُعلن عن تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي، في مايو 2017م، ليكون الناظم القوي لكل القوى السياسية والثورية في المحافظات الجنوبية المطالبة بفك الارتباط واستعادة الدولة الجنوبية، مستفيدا من قوة الدعم الذي تلقّاه من طرف التحالف الثاني دولة الإمارات، صار اليوم، وبعد خمس سنوات، قُوى تتحوصل قروياً، أنتجت طبقة من المنتفعين (الأمنيين والعسكريين والبلاطجة)، الذين يعتاشون من انفلات الحالة الأمنية، وشيوع الفوضى والاستيلاء على فضاءات المدينة ومتنفساتها، والتعدي على الأملاك العامة، والجبايات الكبيرة غير القانونية.. رهان المجلس على شعارات استعادة الدولة لتقوية قاعدته الجماهيرية بدأت تخبوا، فقد اتضح للجميع أن هذه الشعارات ليست أكثر من لافتات تنويم للشارع الذي طحنته موجات الغلاء والحرارة والفوضى والارتداد السلفي، فيما يعيش قادة المجلس وصفه الأول وقادة أحزمته ونخبه وأجهزته وأسرهم في بحبوحة من العيش في الداخل والخارج.
يمسك حزب الإصلاح بأسنانه ويديه بتعز ومأرب، بعد أن فقد حضوره الفاعل في أكثر المحافظات، ويتخذهما رهينة في لعبة اقتسام المصالح، وآخر ما يفكّر فيه هو مصالح المواطنين الذين يعانون من الانفلات الأمني والغلاء والفوضى والتدمير الممنهج للبنية التحتية وقِيم المدينة في الأولى، والاستبداد والترهيب في الثانية، ولهذا لا يُستغرب أن يكون الحزب متورطاً في خنق مدينة تعز باختطافها من الداخل، وإن مصالحه المتعاظمة من الحصار ستتقلص بمجرد فككاها منه، مثله مثل الحوثيين.
استخدم كل أدواته المتطرفة في تفخيخ المدينة بجماعات الفوضى المحسوبين على المحور العسكري وقاداته.
حين بدأت حملة فك الحصار عن المدينة تأخذ مدى أعمق في التأثير، ظهرت في المدينة عمليات الاختطافات والقتل والتعدّي على الممتلكات الخاصة في وضح النهار، وتسريب أخبار مفبركة، وكل ذلك لحرف الأنظار عن القضايا الحيوية، وعلى رأسها الضغط في اتجاه فك الحصار.
من مصلحة بقايا البنية العسكرية والأمنية لنظام صالح وعائلته استدامة الحرب وغياب الدولة، وبقاء منطقة التهريب التاريخي من باب المندب إلى الخوخة تحت سيطرتها الاسمية، ليتسنّى للقوى الإقليمية، التي تعمل لصالحها، فرض سيطرتها المطلقة والمجانية على واحدٍ من أهم الممرات الاستراتيجية في المنطقة.
ستبقى الغمامة السوداء المشبِّعة بأدخنة الحرب وحرائقها الكثيرة والكبيرة تسد أفق اليمنيين، وتحجب رؤيتهم لمستقبل لا يعرفون ماذا يخبئ لهم، ما دامت مثل هذه القوى تقدّم مصالحها الضيّقة التي تتعزز باستمرار الحرب على مصالح المجتمع، التي تبدأ قبل كل شيء من بوابة السلام.
(*) يُنظر (القوة الراسخة: نظام الحكم الحوثي) عدن الغد - 12 يوليو 2022