مقالات
فتنة الكتابة وغوايتها!
السؤال الأزلي حول القراءة والكتابة سيظل مرتبطًا حتى الأبد بذلك السؤال الفلسفي: أيهما قبل "البيضة أم الدجاجة"؟
ولأن الكتابة في الأصل، منذ الأزمنة القديمة، كانت وليدة القراءة، فليس هناك كاتب إلا وهو صنيعة من صنائع القراءة؛ لأن القراءة هي التي ساهمت في تكوين الكاتب داخل كل مَن امتهن واحترف الكتابة.
وعندما نزل الوحي على محمد (صلى الله وسلم عليه) كانت الكلمة هي البداية من خلال "اقرأ"، وهذا كان اختزال للمعرفة الإنسانية منذ فجر التاريخ، وطفولة البشرية.
فتلك الأمم استلهمت معارفها من خلال العمل والممارسة، ووثّقت معارفها على شكل نقوش ورسوم ولغات مختلفة؛ اصطلحوا عليها واعترفوا بجوهرها وماهيتها، وكما قال تعالى "وعلم آدم الأسماء كلها"، ولذلك ظل هناك تساؤل آخر مع التساؤلين الفلسفيين السابقين: هل اللغة اصطلاح أم توقيف؟
ومازالت أبحاث فقه اللغة وعلوم اللغة تعكّ حول هذا السؤال العميق حتى اليوم، ولا يتسع المجال لسرد العلماء الذين خاضوا في الرد على هذا السؤال الكبير، وكذلك ما وصلوا إليه من إجابات، فمنهم من قال: توقيف، ومنهم من قال: اصطلاح.
ولاشك أن العالم يدين للقراءة وللكتابة بكل ما وصَلنا من معارف إنسانية في كل المجالات (العلوم والآداب والثقافة، وغيرها كثير).
وما نريد أن نصل إليه هنا أن الكتابة هي أهم وسيلة لنقل الأفكار، ومنظومة القيم والأخلاق الإنسانية، والطريق إلى الثورات على الظلم من خلال مخاطبة الناس بالكلمة.
ولذلك تفنَّن الكثيرون من الكتاب وحملة الأقلام بطُرق الكتابة وأفانينها وألاعيبها وأساليبها البلاغية وجزالتها، وتميّزت كل لغة عن غيرها، وبقيت اللغة العربية تغرّد خارج السرب، وتتطوّر مع مرور العصور؟ وتأثرت بغيرها، وأثرت في غيرها، وأثرها في العرب والعجم من الذين استغربوا في بدايات عصر النهضة القديم والجديد، وبدت لغة فاتنة في التعبير والقول والقدرة على إيصال مشاعر الكاتب للقراء، وقادرة على إشعار الطغاة أوإيجاعهم، سواء بلغة الشعر أو النثر، ولعل قصيدة الزبيري: "سجل مكانك في التاريخ يا قلم...: مازالت تخفق في عقول أجيال وأجيال رغم إزالتها من المنهج التعليمي، وغيرها الكثير الكثير.
أما النثر فحدث ولا حرج، فقد كان للصحافة، التي ظهرت، وسائل عديدة لنشر المعارف ومخاطبة الناس ومقارعة المستبدين والطغاة، ونبع كثير من الكُتاب وخاصة في اليمن على مدار عقود، ولعلّ أهم تجربة كتابية يجب أن نشير إليها هي تجربة محمد دبوان الشابة، التي تشكّلت ونمت، وتميّز بها عن غيره مع ثقافة وافرة أتاحت له عددا كبيرا من القراء.
ولقد تمكّنت الكتابة وغايتها وفنونها مِنه، ومن كثيرين غيره، والجمال الإنساني والمبادئ لها أثمان -بلا شك- في وضع ظالم ومظلوم معًا.
في العصر العباسي المبكّر، ذهب ضحية الكتابة ابن المقفع -صاحب "الأدب الصغير" و"الأدب الكبير"، ومترجم "كليلة ودمنة"، وهي من أرفع الترجمات العالمية، التي كانت وليدة مزاج سياسي في زمن الطغاة على مر العصور، بتهمة سخيفة تم تلفيقها، وذهب ضحيتها بكل بساطة وزيف.
ومن الشعراء بشار بن برد، وهو من أهم شعراء العربية الذين أسسوا لانعطافة كبيرة ومهمة في اللغة والشعر العربي.
في العصر الحديث، أغوانا نزار قباني بقصيدته "أنا يا صديقة متعب بعروبتي التي منها:
نار الكتابة أحرقت أعمارنا فحياتنا الكبريت والأحطاب
سرقوا أصابعنا وعطر حروفنا فبأي شيء يكتب الكُتاب
ولقد شرّدت فتنة الكتابة الكثيرين من الذين فتنتهم الكتابة أكثر وهم بعيدون عن أوطانهم، وتراب وطنهم، إلى المنافي، وضاعت أعمار وأعمار، ولا ننسى الشاعر أحمد شوقي ومنفاه الأندلسي، والبارودي ومنفاه في جزيرة سرنديب، أمثال هؤلاء الشعراء بعث المنفى فيهم الحنين المطلق، الذي خلقوه في شعرهم كفتنة دائمة للقراء، أما النفي للعسكريين فكان بمثابة الموت، وللكُتاب والشعراء حياة ثانية.