مقالات
فندق الملكة .. ومدرسة السلطان!
ذات مرة نبَّهتُ إلى بعض المعلومات والمفاهيم الخاطئة التي تتردد تباعاً في محافل النشر والحكي العام، مما استقرت في أذهان العديدين كمُدخلات يقينية.
ومازلت أُفاجأ باستمرار تكرار هذا الترديد السمج لتلك المعلومات التي لا صحة لها إلاَّ في المخيال الشعبي البليد.
من مثل ذلك ما قرأنا وسمعنا مرات ومرات عن قضاء الملكة إليزابيث الثانية فترة "شهر العسل" - أو قدراً من تلك الفترة - في مدينة عدن، خلال زيارتها للمدينة في ربيع 1954م.. ثم أنها أقامت خلال تلك المناسبة في فندق الهلال (كريسنت أوتيل) في حي 'التواهي'، في جناح أُعدَّ خصيصاً لهذا الغرض.
عادت هذه الخاطرة إلى الذاكرة إثر أن قرأتُ مقالا نُشر الأسبوع الماضي للصديق الأديب والإعلامي السوري بشير البكر في أحد المواقع الإلكترونية العربية.
ويشير بشير، في هذا المقال، إلى تلكم المعلومة 'إليزابيثية' التي سمعها تتردد لأول مرة خلال إقامته في الـ"كريسنت" وقتَ أن زارَ عدن قبل 35 سنة تقريباً. ومنذها ظلت هذه المعلومة راسخة في رأس صاحبي على أنها واقعة حقيقية.
والحقيقة الوحيدة في الموضوع برُمَّته هو أن صاحبة الجلالة قد زارت عدن فعلاً حينها.. غير أن حكاية 'شهر العسل'، وواقعة فندق 'الهلال'، ليستا صحيحتين على الإطلاق..
فالملكة إليزابيث الثانية تزوّجت من الأمير فيليب يوم 20 نوفمبر 1947م.. فيما زارا عدن يوم 27 أبريل 1954م.. أي أن تلك الزيارة التاريخية تمّت بعد سبع سنين من فترة شهر العسل الحقيقي لا الإفتراضي!
كما أن الملكة أقامت - خلال تلك الزيارة التي لم تدم أكثر من يوم وليلة!- في منزل السير توم هيكنبوتام، المندوب السامي البريطاني أو حاكم عدن حسب التسمية الشائعة، وهو المنزل الجميل الذي يربض على هضبة 'رأس طارشين' في حي 'التواهي'.
ولم ترَ الملكة فندق الهلال قط، إلاَّ كلمحةٍ بصرية سريعة، خلال مرورها بجواره وهي تغادر حي 'التواهي' إلى أحياء أخرى شهدت فعالياتها الرسمية ومشاويرها الشخصية خلال الزيارة.
وغير هاتين الكذبتين الساذجتين، تطعفرت أكاذيب كثيرة تحت قنطرة تلك الزيارة الملكية السريعة والقصيرة التي قامت بها صاحبة الجلالة في طريقها إلى رحلتها الر سمية الأصلية إلى دُرّة التاج البريطاني (الهند).
ومن مثل ذلك أيضاً، ما ظل يتردد بمناسبة وبدونها، عن تلقّي السلطان قابوس بن سعيد، سلطان عُمان الراحل، تحصيله العلمي (خلال فترة طفولته وصباه) في مدينة عدن، وتحديداً في مدرسة 'أبناء السلاطين' الواقعة على هضبة جبل 'حديد'..
والحقيقة المؤكدة لدى كاتب هذه السطور أن السلطان قابوس لم يطأ أرض عدن يوماً في حياته، لا خلال طفولته ولا بعدها.. فلا جاءها زائراً ولا دارساً ولا سائحاً ولا حتى عابراً في سفينة أو 'جاري جمل'!
ولكن من العادات الشعبية الساذجة أن الناس تحب الكلام المعلوك عن السلاطين والملوك، وتعشق ترديد الحكايات السابحة في ملكوت الخيال، وكما قال من قال إن "الكلام مافيش عليه جُمرك"!