مقالات
قصـة قصـيرة طـويلة جداً
صحافة هذي البلاد مثل جدار مستشفى الثورة العام، مَن جاء كَتَب.. وسُلطة هذي البلاد مثل حمار الحاج سعيد بن سعيد، مَن جاء رَكَب..
هذي البلاد قال أندريه جيد يوماً عنها وعن أهلها: صدِّق أولئك الذين يبحثون عن الحقيقة، ولا تصدِّق أولئك الذين يزعمون بأنهم عثروا عليها.
وهم كُثرٌ في حارتنا، التي تقع في أقصى أطراف هذي البلاد، والتي مرَّ بها يوماً البرت إينشتاين، فكشف سراّ عنها وعن أهلها: 2% فقط منهم يُفكّرون، فيما 3% يظنون أنهم يفكّرون، أما 95% يُفضِّلون الموت على أن يُفكّروا للحظةٍ واحدة !... أي والله!
وكان الحاج عبد الوارث محمد نعمان أحمد البنّا ينصحني دائماً: اِتَّقِ الله.
لم يقل لي يوماً: اِتَّقِ الحكومة، أو: اِتَّقِ كلابها، برغم أنه يدري بأن كلاب الحكومة أوسخ من الحكومة نفسها.
وكان في حارتنا قطيع ضخم من الكلاب، من كل الأشكال والألوان والأحجام والسلالات. لم يقفوا يوماً قُبالة دار أحد، لينبحوا اِستجداءً للطعام أو بثَّاً للرعب، وإذا نبحوا فلحماية الناس وأشيائهم من اللصوص والرعاع.
وذات يوم - لا ندري متى بالضبط - جاء كلب من خارج الحارة لينضم إلى هذا القطيع. مُنذها، علا النباح "على الفاضي والمليان"، واستشرى داء الكَلَب فينا، وزادت السرقات.
لم تُقيّد مخافر البوليس - يومها - حادثة واحدة ضد "مجهول" أو حتى ضد "مكلوب"، برغم أن معدلات حدوث هذه السرقات زاد منسوبها بصورة فاقت حدوثها في الماضي كثيراً جداً.
اكتشفنا بعدها - وبالصدفة - أن رئيس العصابة هو نفسه رئيس مخفر البوليس، الذي كان هو نفسه أيضاً إِمام الجامع.
وكانت كلّما زادت وتيرة إقامة الصلوات، زادت وتيرة حدوث السرقات. تساءلنا يومها عن السر في زيادة عدد الصلوات في اليوم الواحد، حتى بلغت خمسين بدلاً عن خمس!
ازدادت أعداد الكلاب في الحارة، وازدادت ساعات النباح ووقائع السرقة. كما ازدادت الجرائم وتنوعت، وظهرت نوعيات لم نعرفها من قبل، ظهر الاغتصاب فجأة، وخطف الأطفال والنساء ومُعارضي النظام السياسي.
وظهرت الحرائق في كل مكان تتوافر فيه سلعة أو خرقة أو ورقة.
خَلَت الطرقات من الناس، والجوامع من المؤمنين، والأسواق من باعة الخبز والخضار، والشواطئ من الماء والرمل والشعراء والعشاق. فقط، ازدادت أعداد السياح والغرباء، وضباط المخابرات، وتجار الخمور والحشيش.
والأنكأ من ذلك كله وأدهى: تم تعيين أنجس الكلاب وأغبى الحمير في أهم وظائف الحارة!
سمعت رئيس حزب المعارضة يهتف متظاهراً ذات نهار:
- فليذهب الأشرار إلى الجحيم، وليظل الأخيار في الحارة.
لكنني لا أظن بصواب تلك الفكرة، التي أراها بلهاء وساذجة.
فما قيمة الحياة من دون شر؟ وأين متعتها من دون صراع؟
قُل مثلاً: فليذهب الأغبياء والحمقى. إنهم عبء على الحياة، ويُشكلون ضرراً بالأرض والسماء، على حدِّ سواء.
ومنذ كنت طفلاً وأنا أكره منظر القبر ومشاهد المقابر. لكن الله عاقبني على ذلك الشعور. لقد جعلني اليوم أُقيم في مقبرة كبرى أسموها: الوطن!