مقالات
"كمران" أكثر من علامة تِبغ!
ربّما يعرف اليمنيون جميعاً "كمران" باعتبارها العلامة التجارية الأولى لأهم منتج محلي من التبغ، لكن ربّما يجهل الغالبية العظمى منهم أنها من أهم الجزر اليمنية على البحر الأحمر.
على تعاقب الحكومات اليمنية، ظلت جزيرة 'كمران' مهملة وشبه منسية، وإذا جذبت اهتماماً فإن الأمر لا يتجاوز النظر إليها كموقع عسكري متقدِّم على البحر.
منذ أكثر من شهر، يرد اسم هذه الجزيرة في نشرات الأخبار العالمية، وربما تتصدّرها أحياناً، لكنها لا تحضر باعتبارها لؤلؤة البحر الأحمر كما يُطلق عليها تاريخياً، ولا لأنها أجمل جزيرة في البحر من حيث الطبيعة والتنوُّع الحيوي والبيولوجي، وأماكن الغوص المفترضة، بل باعتبارها هدفاً للضربات الأمريكية المكثفة.
هناك تقديرات بأن الحوثيين حوّلوا الجزيرة إلى قاعدة عسكرية، ومكان لتخزين الأسلحة والصواريخ، ويعتقد أنها تُستخدم كمركز متقدّم لرصد حركة الملاحة في البحر الأحمر، وتنفيذ الهجمات.
والأرجح أن الخبرات العسكرية الإيرانية التي تدفقت على مناطق سيطرة الحوثيين، طوال سنوات الحرب، تتواجد هناك أيضا.
فالجزيرة ليست مكاناً للعمل العسكري فقط، فهي إلى جانب ذلك توفّر طبيعتها الساحرة مكاناً للاستجمام والرّاحة. فيها بنت الملكة إليزابيث قصراً، وزارها الملك فاروق، وكانت المكان المفضل لضباط الاحتلال البريطاني في دول 'الكومنولث' لقضاء إجازاتهم.
تاريخياً، ظلت الجزيرة مطمعاً للغزاة ولكل القوى العسكرية التي عبرت البحر الأحمر، أو تمددت فيه على مر العصور.
احتلها البرتغاليون مرتين في القرن السادس عشر، وسيطر عليها المماليك مرة واحدة لمدة قصيرة.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، احتلها البريطانيو قبل أن يطردهم العثمانيون في الربع الأخير من القرن نفسه.
أثناء الحرب العالمية الأولى عادت بريطانيا لتحتل الجزيرة، وحوّلتها إلى قاعدة عسكرية، وبنت فيها مطاراً كان منطلقاً لهجماتها ضد الإيطاليين في إرتريا والصومال، مطلع ثلاثينات القرن الماضي. لاحقاً استخدمتها سلطات الاحتلال البريطاني كمركز لمراقبة الملاحة في البحرالأحمر حتى الجلاء عن الجنوب في العام 1967م.
ما زالت قلعة 'كمران' كأقدم أثر تاريخي موجود في الجزيرة شاهدة على غازٍ قديم مرَّ من هناك. هذا الأثر يبدو مهماً لتفسير حرص جماعة الحوثي على عسكرة الجزيرة ضمن علاقاتها المتلازمة بالسيطرة الإيرانية.
تقول العديد من المصادر التاريخية إن القلعة بناها الفرس، بعضها يتحدَّث عن مطلع القرن السادس، وبعضها يشير إلى مطلع القرن السابع الميلادي، عندما كانت فارس إمبراطورية مهيمنة تتنافس مع بيزنطة.
بعد قرابة 15 قرناً، وتحديداً نهاية العام 2014، ستعود الجزيرة لتكون جزءًا من الهيمنة الإيرانية الفارسية بواسطة الحوثيين، بعد تمرير الأخيرين إلى صنعاء بمساعدة دول عربية!
المفارقة أن هذه الدول، التي ساعدت إيران في إسقاط صنعاء، ستشكل تحالفاً لشن الحرب، وقطع ذراعها على حدِّ زعمهم، لكنها أبقت على الذراع، وقطت اوصال اليمنيين!
تكمن قيمة الجزيرة في موقعها الإستراتيجي على مقربة من ممر الملاحة الدولية. هذا الموقع يشكّل حزاماً أمنياً لموانئ الصليف ورأس عيسى ونسبياً لميناء الحديدة. لا يفصلها عن ميناء الصليف من الجهة الجنوبية للجزيرة سوى ميل واحد، وأبعد مسافة من الشمال تصل إلى 6 أميال بحرية.
في العام 2018، عندما قاد التحالف السعودي - الإماراتي معركة ضد جماعة الحوثي للسيطرة على محافظة الحديدة غربي البلاد، كانت عيون الحوثيين مفتوحة على جزيرة 'كمران'. توقعوا إنزالاً بحرياً للسيطرة على الجزيرة فقاموا بتلغيم محطيها من ثلاثة اتجاهات.
اليوم الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، التي كانت منحازة للحوثيين، وبقيادة الرئيس نفسه، هي التي تقف في مواجهتهم.
اتفاق أستوكهولم، الذي فرضته بدواعي "الخشية على المدنيين"، لم يعد مهماً حتى لو ارتكب جيش واشنطن مجزرة رهيبة بحق المدنيين، كما حدث في استهداف ميناء رأس عيسى. ما يهم واشنطن هو المصالح الأمريكية، التي تضررت من ضربات الحوثيين، ولذلك هي تخوض معركة ما زالت ملامحها غير واضحة تماماً.
لذلك كانت حصة جزيرة كمران من الضربات الأمريكية منذ بدء الحملة الجوية عشرات الغارات، آخرها خلال اليومين الماضيين.
هناك تصاعد في الهجمات الأمريكية وهي مركزة بصورة أكبر في محافظة الحديدة الساحلية ومحيطها، لاسيما الخطوط الأمامية لمليشيا الحوثي، وهناك تركيز موازي على جزيرة 'كمران'.
يشير مسار هذا الهجوم المكثف على مناطق الساحل إلى أكثر من سيناريو:
- الأول: واشنطن بصدد التمهيد لإنزال بحري للسيطرة على الجزيرة بهدف تحييد كل قدرات الحوثيين العسكرية على البحر الأحمر من خلال تواجد دائم.
- الثاني أن الهجمات تمهّد لقوة محلية للسيطرة على الحديدة، وتحويل جزيرة 'كمران' من تهديد إلى نقطة هجوم على الحوثي من البحر، أو تحييد الجزيرة لتأمين الملاحة.
- الثالث: استمرار الضربات والاكتفاء بالردع بالغارات الجوية، وانتظار ما ستسفر عنه المفاوضات مع إيران.
إذا كان السيناريو الثاني مرجحاً فمن القوة المرشحة للسيطرة؟
إلى الشمال من كمران يقع ميناء 'ميدي' وفي قبالته جزيرتا "بكلان" و"الفشت"، وتسيطر عليهما قوات حكومية يمنية مدعومة من السعودية.
وإلى الجنوب من ميناء الحديدة يقع أرخبيل حنيش تحت سيطرة القوات المشتركة بقيادة طارق صالح، المدعومة من الإمارات.
حتى الآن، في هذه الحملة الجوية المتصاعدة، منذ ستة أسابيع، ليس هناك طرف مرئي يتحرّك بصورة علنية سوى الولايات المتحدة الأمريكية.
على الجهة الأخرى تزدحم في الخفاء تسريبات عن تحرك متوقع من جهة القوات المدعومة من الإمارات، وربّما تقرر السعودية أيضاً. فهل سنشهد سباقاً بين الحليفين على من سيضع اليد أولاً على الحديدة.
قد نستيقظ في يوم قريب وقد اشتعلت حرب برية، أو أن الولايات المتحدة ستقول كلمتها الأخيرة بشأن 'كمران'، الجزيرة، لنحتفظ نحن بالتَّبغ!