مقالات
لا تسرقوا الدم الفلسطيني
لا يمكن لأحد اليوم أن يتقدَّم ليمُنّ على الفلسطيني بأي فضل. لا فضل لنظام ولا حتى للشعوب. ما دوَّنه التاريخ أن كيان الاحتلال وجد الفرصة لارتكاب ما لم يجرؤ عليه منذ تأسيسه بكل أريحية دون أن يواجه حتى صراخاَ شعبياً مؤثراً في الشوارع.
وجد الفلسطيني نفسه وحيداً تطارده آلة القتل الوحشية، والقنابل الأمريكية الضخمة، من حي إلى آخر، طيلة فترة العدوان الوحشي.
ليس هناك منطقة في غزة لم تشهد مجزرة. العائلات، التي فقدت أحباءها تحت أنقاض منازلها فقدتهم في المكان الثاني، الذي انتقلت إليه، وبعضها مُسحت تماماً من السِّجل المدني في النزوح الثالث، والرابع، والخامس.. والأخير!
استباح الكيان العنصري كل شيء: لا حرمة لمشفى، أو مسجد، أو كنيسة، أو منظمات إغاثة، أو مخيمات نزوح.
مارس القتل بدافع القتل، ومن أجل القتل، حتى إن الأماكن، التي حددها كوجهة آمنة للمهجَّرين من منازلهم، كانت أكثر الأماكن التي استهدفها وقتل فيها عشرات الآلاف.
هذه الهمجية كانت تعبيراً عن هزيمة كبيرة للمنطقة برمَّتها. حتى تلك المليشيات الإيرانية، التي كانت تطلق بعض المُفرقعات، لم تنصر الفلسطيني بقدر ما أرادت الارتقاء على جثته لتتحول المواجهة إلى مناورة مكشوفة لاقتسام المكاسب مع كيان الاحتلال في المنطقة، قبل أن يُقصم ظهر المشروع الطائفي في سوريا.
وكما جرت العادة عندما تتوهّم إسرائيل أنها استوت على عرش المنطقة، كان الفلسطيني وحده يعيد إليها صوابها، فتصطدم بحقيقة صاحب الأرض، الذي يصعب اقتلاعه.
صحيح أن أسرائيل فعلت كل ما يحلو لها: دمَّرت أكثر من 80 في المئة من قطاع غزة، قتلت قرابة خمسين ألفا؛ أكثر من نصفهم نساء وأطفال، وأصابت قرابة مائة وخمسين ألفا.
غزة، رغم أنها تحوَّلت إلى مقبرة جماعية، أجبرت الاحتلال على وقف العدوان، وجعلت انتصاره المستحيل مكلفًا فوق احتماله.
هناك الكثير من الهرج والإدعاءات، التي تملأ الشبكات الاجتماعية عن أدوار مكذوبة لأنظمة وشعوب ومليشيات تحاول -بلا خجل- سرقة دم الفلسطيني، الذي ما زال يتدفق حتى اللحظة.
لا فضل لأحد على الفلسطيني إلا للفلسطيني نفسه، الذي لا يضاهى بصبره وجلده وتشبثه بالأرض، في وقف هذه الحرب البشعة.
هذا شعب يعيش تحت وطاة الاحتلال منذ مائة عام، ومازال يقاوم.
كان كل شيء سهلاً أمام إسرائيل لفعل ما تريده: مصادر تسلح بلا سقف، حتى إنها حصلت على أحدث ما أنتجته المصانع الأمريكية، ثم دعم سياسي لا محدود من القوى الكبرى، يقابل ذلك كله خذلان مفتوح لغزة وللفلسطينيين من أبناء أمتهم.
وحده الفلسطيني، الذي جعل تحقيق الأهداف الإسرائيلية صعباً، إن لم يكن مستحيلاً ومكلفاً على نحو لا تحتمله إسرائيل نفسها.
يمكن للفلسطيني أن يشعر بالامتنان لتضامن شعبي عالمي سطّرته القوى الحيَّة، التي ناهظت سياسات بعض حكوماتها، الامتنان للحركات الطلابية والأكاديميين والنخب، التي حافظت على ضمائر يقظة حول العالم، من كل الأديان والطوائف.
هذه التحركات الشعبية فضحت جرائم الاحتلال، ووضعت الكيان العنصري في مواجهة وعي عالمي متنامٍ.
كما أن هذه الحرب عرّت الاحتلال، وأظهرت طبيعته الوحشية الاستعمارية الإحلالية أمام العالم، مؤكدة عدالة القضية الفلسطينية، وحق الفلسطينيين في التحرر والخلاص.
الأهم من ذلك، أن أحد أسباب وقف العدوان هو إدراك الداعمين للاحتلال، خاصة في الولايات المتحدة، أن استمرار هذه الحرب بات عبئًا سياسيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا.
هذا التحول في مركز الثقل الداعم للاحتلال سيؤثر -بلا شك- في مستقبله.
الحقيقة، التي لا تعلوها أخرى، هي أن كل هذا لم يكن ليتحقق لولا صلابة شعب الجبارين، وتضحياته، وصموده الأسطوري في مواجهة الأهوال، ومقارعة جيش الاحتلال، وإنهاكه.
ولقد قيل في بداية الحرب إن "الفلسطيني لا يحرر نفسه بل يحرر المنطقة برمَّتها".. لعلها أصدق ما قيل حتى لو كانت من باب التمنِّي.