مقالات
لماذا لم يكتبوا مذكراتهم؟
لوقت طويل، كان هذا النوع من الكتابة التاريخية (المذكرات) غير مألوفٍ في اليمن.
ومع أن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت تغيراً نسبياً في كتابة المذكرات السياسية ونشرها، إلا أن ذلك لم يصل إلى مستوى يمكننا معه أن نقول إن "الإفصاح" أكثر من "الكتم" في أحداث اليمن وتاريخه المعاصر، وتحديدا النصف الثاني من القرن العشرين.
الأهم من ذلك أن أغلب الشخصيات المدنية، الفاعلة في تلك الفترة، فضّلت التزام الصمت؛ لنقل إنها تركت رواية أدوارها عرضة للتحريف والغموض.
هذه ظاهرة غريبة في اليمن:
شخصيات تقليدية قبلية وعسكرية؛ مثل الشيخ سنان أبو لحوم، وعبدالله الأحمر، وأحمد إسماعيل "أبو حورية"، وحسين المسوري، بادرت إلى كتابة مذكراتها، ومن يقولون إنهم رموز الحركة الوطنية العصرية المدنية الحديثة، وكانوا صُناع أحداث اليمن وتاريخه المعاصر، مستمرون بلا ذاكرة وبلا مذكرات!!
يكفي أن نقرأ الأسماء الثلاثة الأولى من قائمة شخصيات لم تكتب مذكراتها، تزيد عن أربعين شخصية، لنعرف كم هي المفارقة صادمة:
الرئيس عبدالله السلال، علي سالم البيض، الأستاذ النعمان!
كيف نستوعب هذا:
أحمد إسماعيل "أبو حورية" التحق بمن سبقه من شيوخ القبائل، وكتب مذكراته في كتاب يقترب من الألف صفحة، وشخصيات مدنية في مُتن التاريخ اليمني كانت جزءاً فاعلاً في صناعة أحداثه، وممن نتوقع أن نقرأ مذكراتهم، لكنهم لم يقولوا كلمتهم، كأن مشروع دولة المواطنة المدنية الحديثة بلا لسان وبلا ذاكرة!
هذه المفارقة تشير إلى أن القوى التقليدية كانت أكثر وعياً بأهمية التوثيق كوسيلة لاستمرارية تأثيرها ورؤيتها، بينما كانت القوى الوطنية المدنية أقل اهتماماً بتدوين رؤاها وأدوارها.
لا موقف من القبيلي والشيخ، ولا قيمة مسبقة تُعطِي المتعلم والمدني أفضلية عليهم. لكن المتوقّع أن الثاني أقرب إلى الوعي بأهمية الكلمة وتاثيرها، وأن الأول يميل إلى وضع الأولوية للقوة والسيطرة على الواقع قبل أن يهتم بالثقافة وتأثير الكتابة.
ألم ينطلق الشاعر الشيخ علي ناصر القردعي من هذا الاعتقاد المسبق عن "المُتعلِم"، وقدرته على قراءة الواقع وما يحدث، عندما قال في إحدى قصائده:
والعز قد سار لا معنى ولا عاني
يا ذي قريت المترجم ويش راطونه
هذا يستدعي السؤال: كيف نفهم أن شخصيات تقليدية أدركت أهمية كتابة التاريخ من وجهة نظرها لضمان بقاء دورها ومكانتها في السردية الوطنية.
وفي الوقت نفسه غاب هذا الملمح عند من كان لهم أدوار أساسية في صناعة التاريخ، وجاءوا إلى السياسة من طريق الثقافة، والانتماء للتكوينات الوطنية الحديثة والتعليم والقراءة، وإدراك أهمية الكتابة والتدوين في تاريخ الأفراد والشعوب!
هذه مشكلة عميقة تتعلق بثقافة التوثيق والذاكرة في اليمن: تباين غريب، يعكس علاقة معقدة بين الكتابة كفعل توثيق وصراع رؤى وسرديات، والظروف السياسية والاجتماعية، التي تحدد من يكتب، ومن يختار الصمت.
- المذكرات المفقودة: ذاكرة اليمن المعاصر بين الكتم والإفصاح
ذكرت، في بداية المقال، أسماء محددة؛ متعجبا من إحجامها عن كتابة مذكراتها. السِّمة المشتركة بينها أنها تضم شخصيات كان لها أدوار أساسية في أحداث اليمن الكُبرى.
سأحاول قراءة أسباب هذا الإحجام عند شخصيات محورية لم تدونْ مذكراتها، ولكن سألقي أولاً نظرة سريعة على نمط آخر من شخصيات الواجهة.
بإمكاني أن أفهم امتناع كثيرين عن كتابة مذكراتهم؛ لأنهم كانوا "موظفين"، وليسوا صناعاً للحدث.
نوع من شخصيات وضعت في الواجهة، ولكنهم افتقدوا "الشخصية المستقلة"، وتعاملوا مع أنفسهم كموظفين، ولم يروا أنفسهم كشركاء.
تحت هذه النوعية من الشخصيات يمكن أن نضع شخصيات، مثل: عبدالعزيز عبدالغني، عبدالكريم الإرياني، حيدر العطاس، علوي السلامي، سالم صالح، عبدالقادر باجمال، عبد ربه منصور هادي.
كتابة المذكرات موقف وفعل، وبعض الفاعلين السياسيين يفتقدون القدرة على التعبير عن شخصياتهم ومواقفهم حتى على أعتاب النهاية، نتيجة استمرار هيمنة القوى التي حددت أدوارهم مسبقاً.
في عهد صالح، كان بإمكاننا تفسير هذا الإحجام بأن كثيرا من الشخصيات العامة، أو أبنائهم وأقاربهم، كانت لها حضور في منظومة الدولة وفق معادلات المصالح القائمة آنذاك، مما يجعل كشف الماضي خياراً محفوفاً بالمخاطر.
في الحالات، التي كُتبت فيها المذكرات، تعرَّضت للتدخل من قِبل الورثة، أو السلطات الحاكمة، مما جعلها سجلاً مبتوراً يعكس وجهة نظر الحاضر لا الماضي.
تتعدد أسباب أحجام الساسة المدنيين المنتمين لمفهوم اليمن الجديد عن كتابة مذكراتهم.
بعضهم، قصف الاغتيال أعمارهم، وكتم أنفاسهم، لا فحسب أعاقهم عن كتابة مذكراتهم، وتدوين شهاداتهم عن التاريخ. من هؤلاء: علي عبدالمغني، عبدالرقيب عبدالوهاب، سالم ربيع علي، عبدالفتاح إسماعيل، إبراهيم الحمدي، فيصل عبداللطيف، جارالله عمر، إلى آخر قائمة الاغتيالات الطويلة في تاريخ اليمن.
عاش الرئيس عبدالله السلال فترة كافية خارج السلطة واليمن، مع ذلك لم يكتب مذكراته!
لا مذكرات للسلال في رفوف المكتبة اليمنية! هذا يكفي لنعرف مستوى الكتم في رواية تاريخنا.
من سيكتب إذا كانت شخصية بمستوى أهمية السلال، ودوره المؤسس لليمن الجمهوري الجديد، لم تكتب روايتها؟
راجت أحاديث تشير إلى أنه ترك مذكرات بعد وفاته المفاجئة في ذروة الأزمة السياسية بين شريكي الوحدة عام 1993، ومحاولة البيض الزج به في الصراع بعد أن اقترح اسمه ليكون رئيساً لمجلس رئاسي انتقالي جديد يعقب تنحي صالح والبيض نفسه عن السلطة، لكن السنوات مضت ولم تنشر مذكراته، ولا أي أخبار صحيحة تؤكد أنه قد كتبها قبل رحيله.
الأستاذ النعمان وعلي سالم البيض، إلى جانب السلال، نموذج للشخصية المحورية التي لم تكتب مذكراتها.
ما يجمع الرجلين، على ما يبدو للمتأمل في سيرتهما، وقوعهما في حالة إحباط بعد خروجهما من المشهد السياسي.
حالة يأس نالت من تماسكهما النفسي والذهني، ونوع من فقدان الأمل إلى مستوى جعلهما يختارا الصمت والإحجام عن كتابة المذكرات، وما يمكن أن تكشفه من خفايا وحقائق تُبرز أدوارهما ورؤيتهما للأحداث التي عايشاها.
اليأس يؤدي بمن يمر به إلى فقدان القدرة على إعادة سرد ما عايشه من المواقف والأحداث في ماضٍ انطوى وخمدت نيرانه، ويفترض أن بالإمكان تناوله بهدوء بعد أن خمد الانفعال بصراعاته، والأسى من خيباته.
لم يكتب الأستاذ النعمان مذكراته! ما كتبه، ونُشر تحت عنوان "مذكرات أحمد محمد نعمان - سيرة حياته السياسية والثقافية"، هو جزء محدود من سِيرته، وأُعد بصيغة سؤال وجواب سَجلها الأستاذ في أشرطة، وقام الدكتور علي محمد زيد بتفريغها، ومراجعتها وتحريرها.
شعور الأستاذ النعمان بالغدر والإحباط بعد أن سحبوا جنسيته عام 1970، وما لحقه من حادث اغتيال ابنه السياسي المحنك وزير الخارجية، محمد أحمد نعمان، في لندن عام 1974، لا يبرر ذلك الإحجام عن كتابة مذكراته، والتوسّع فيها في فترة إقامته في سويسرا، التي امتدّت أكثر من عقدين.
مؤسف وصادم أن يجد هذا الجيل مذكرات "أسيرة الأحزان، تقية بنت الإمام يحيى"، ولا يجد مذكرات الأستاذ النعمان!
كان يمكن لمذكراته أن تكون شهادة حيَّة على مراحل التحوّل التي مرَّ بها اليمن، يوضّح من خلالها رؤيته للأجيال القادمة عن الصراعات، التي واجهها الرجل، الذي يُوصف بأنه الصانع الأول للقضية الوطنية، ومؤسس اتجاه وطني تنويري انحاز إلى التغيير والتحديث والتعليم، ونشر الثقافة والوعي.
مذكراته الموسَّعة كانت ستقدّم روايته للأحداث، ودوره فيها بعد قيام ثورة سبتمبر، وتكشف أبعاداً ربما غابت أو شُوِّهت في السرديات الرسمية، أو المذكرات الأخرى.
مع ذلك، علينا أن لا ندع هذا العتب أن ينسينا إدراك مكانة الأستاذ النعمان، الذي لم يكن فقط شاهداً على التحولات السياسية في اليمن، بل كان فاعلاً أساسياً فيها، وأن مشروعه التنويري لم يكن مجرد فكرة عابرة، بل محاولة حقيقية لإخراج اليمن من عتمة الماضي؛ هذه حقيقة لا تمحيها بعض مواقفه اللاحقة التي نختلف معها.
رغم صمته المدوّي بعد خروجه من اليمن، يظل الأستاذ النعمان رمزاً لا يمكن محوه. مذكراته، التي لم تُكتب، تظل جرحاً في الذاكرة اليمنية، لكنها أيضاً فرصة لإعادة التفكير في دور التوثيق كفعل مقاومة وحضور.
-المذكرات؛ سردية للماضي، وفعل في الحاضر
كتابة المذكرات لا تتعلق فقط بتذكّر الماضي، بل هي فعل مؤثر في الحاضر؛ فعل مرتبط بإعادة قراءة التاريخ في سياق الحاضر الشخصي والعام لمن شارك فيه.
من خلال المذكِّرات، لا يكتفي الكاتب بسرد ما حدث، بل يضع تجربته في إطار يمتد إلى اللحظة الراهنة، حيث تظل المشاريع القديمة، بعروقها وجذورها، ممتدة بقوة إلى الحاضر.
ظهرت المذكرات كأداة لتوثيق التجارب الفردية مع تطوّر المجتمعات الحديثة، لكنها تجاوزت ذلك لتصبح امتداداً لصراعات سياسية واجتماعية وثقافية.
في البلدان المستقرة، التي تسود فيها الديمقراطية وحرية التعبير، تُشكّل المذكرات جسراً بين الأجيال، يُمكّن القارئ من فهم الأحداث من وجهة نظر صانعيها.
في اليمن لم تتطوّر ثقافة مدنية تدعم توثيق الأحداث ومراجعتها. يعود ذلك، في أحد أسبابه، إلى أن اليمن بلد لم يشهد استقرارا مديدا، ولم تكتمل فيه عملية بناء الدولة الحديثة.
هذا ما جعل المذكرات، وما تستدعيه من إفصاح شفاف، استثناءً في ظل قاعدة "الكتم والإخفاء"، التي تحكم التاريخ اليمني.
الأحداث في اليمن تُدفن بفاعليها وحقائقها، تاركة وراءها فراغاً تملؤه روايات مشوّهة؛ أعدتها قوى سلطوية مهيمنة في مراحل متعاقبة من التاريخ اليمني المعاصر، وبقيت تحرسها عبر قوى وخطاب يُعاد إنتاجه باستمرار.
هذا الصمت، الذي انتهجته شخصيات كانت في ريادة الفعل وصناعة التاريخ، والإحجام عن كتابة مذكراتها؛ شارك في التعتيم على حقائق تاريخنا المعاصر، وما حدث فيه، وترك التاريخ اليمني مجالا لسردية معينة تقوم بإعادة إنتاج رؤى أعاقت اليمن عن بناء الدولة الوطنية الحديثة.
قوى قادت اليمن في طريق معاكس لأحلام اليمنيين بالمواطنة، وحكم دولة القانون، وهذه المآلات الكارثية، التي تعيشها اليوم، ليست سوى نتيجة لذلك الضلال الذي قوَّض الدولة واليمن كلها في نهاية المطاف.
السيطرة على التاريخ ليست سوى امتداد للسيطرة على الحاضر.
يُعاد تشكيل السرديات التاريخية لتتماشى مع أولويات النُّخب والجماعات، التي لا زالت بنيتها متماسكة، مصالح وتكوين مجتمعي.
هذه الهيمنة على الماضي تُحكم قبضتها على الذاكرة الجمعية، فتقصقص الحقائق وتُهذّبها لتتماشى مع طبيعة القوى والمشاريع المستمرة في واقع اليمن وحاضرها الممزَّق.
كتابة المذكرات ليست مجرد فعل شخصي؛ إنها محاولة لكسر حاجز الصمت، وإطلاق العنان للحقائق المكبوتة. لكنها في اليمن تظل مهمة شاقة، تُقابلها تحدِّيات الإحباط واليأس، وفقدان الحماس والرغبة في القول، والأهم الخوف من كشف المستور.
من جانب آخر، تقدِّم المذكرات سردا مكتوبا يعيد بناء الماضي، ويمكن أن يساعدنا في فهم المشاريع التي شكَّلت الحاضر وما زالت فاعلة فيه، أو تسببت في كوارثه، وفتحت الباب لإعادة قوى كانت في حكم المنقرضة.
مع ذلك، أرى أن إحجام بعض الشخصيات الوطنية عن كتابة مذكراتها لا يعني أن المشروع الوطني، الذي كانت جزءاً منه، قد هُزم أو انتهى؛ بل هو تحدٍ يستوجب أن يعمل من يؤمنون بهذا المشروع على استعادة هذا الإرث، سواء من خلال إعادة قراءة ما تركوه من وثائق وكتابات وسيرة شخصية، أو من خلال تشجيع الشخصيات المدنية المعاصرة على توثيق تجاربها.