مقالات
مأساة الفاشر .. ما أشبه دارفور اليوم بالبارحة
قصص قتل واغتصاب وسلب ونهب وقرى محروقة، وبقايا منازل مهدمة، وحيوانات مقتولة أو نافقة، ولا حياة في عدد من القرى حول مدينة (الفاشر)، كبرى مدن الولاية في إقليم دارفور غربي السودان، بدت أثراً بعد عين، وكل شيء كان يقول إن "الجنجويد مرّوا من هنا".
واليوم لا شيء تغير كثيراً عن هذه المشاهد في (دارفور) التي شاهدتها بأم عيني قبل نحو ربع قرن، تفككت معها تلك الصورة التي كنت أحتفظ بها في مخيلتي للسودان الواحد العملاق والكبير المتنوع، وبدأ يتشكل لديّ انطباع آخر مختلف إزاء بلد وجدته أمامي شديد التعقيد والفرقة والتشظي، وتجاه دولة من أقل بلدان العالم الثالث تنميةً وأكثر دوله فشلاً. وكلما كنت أتساءل عن سبب بؤس الإنسان هنا، يأتيني الرد بأن هذه هي حياة الناس في هذه المناطق الرعوية المجدبة، قليلة الزرع والضرع، منذ مئات السنين، وألا عجب، فالسكان راضون بحالهم لولا النزاعات الناشبة بين عرب الإقليم وأفارقته حول الماء والكلأ.
هكذا بدا لي الأمر في البداية، لكن جوهره أخذ يتبين لي أكثر مع تعدد زياراتي لهذا الإقليم، وكانت إثنتان منها برفقة الرئيس المعزول عمر حسن البشير، وأخرى مع نائبه علي عثمان محمد طه.
في القلب من كل الحروب والنزاعات التي عصفت بالسودان خلال أكثر من نصف قرنٍ مضى، كانت أقاليم دارفور ورقة ضغط استخدمها معارضو النظام في العاصمة الخرطوم والمتربصون بالسودان من الخارج بهدف ابتزاز الخرطوم وانتزاع أكبر قدر من التنازلات منها في كل القضايا التي كانت محور الصراع مع جنوبه، والتمرد والاضطرابات في وسطه وشرقه.
وقتذاك، حدث انفجار إعلامي هائل في الغرب، تصدرت معه أحداث دارفور عناوين الأخبار في كبريات الشبكات التلفزيونية والصحف واسعة الانتشار والتأثير في كلٍ من الولايات المتحدة والغرب الأوروبي، وتقاطر إلى دارفور عدد من المسؤولين الدوليين السابقين، رأيت منهم وزير الدفاع والخارجية الأمريكي كولن باول، ورئيس وزراء بريطانيا طوني بلير، والأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، وكثيرين غيرهم.
ثم ما لبثت الاتهامات لحكومة الخرطوم تتوالى بالتورط في تشكيل عصابات (الجنجويد) ودعمها بالسلاح ودفعها للتصدي لبعض حركات التمرد المسلحة في الإقليم.
وعندما جرى الترتيب لإجراء محادثات سلام بين هؤلاء والحكومة السودانية في (نجامينا)، عاصمة تشاد التي كانت متهمة بدورها بالتورط في تأجيج النزاع في دارفور، ذهبت كصحفي لتغطية تلك المفاوضات، وقد استرعى انتباهي مظهر أولئك الشباب الذين قدموا من الإقليم للتفاوض مع وفد الحكومة، وأثار استغرابي أكثر وجود أجانب غربيين كانوا يقومون بالاعتناء بممثلي المجموعات الدارفورية المسلحة، بتوفير الثياب اللائقة لظهورهم أمام كاميرات الإعلام، ومنحهم (مصاريف الجيب)، فضلاً عن تقديم الاستشارات لهم خلال تلك المفاوضات.
كان من الواضح حينذاك أن سببين رئيسيين لتلك الحملة الشرسة على حكومة السودان ورئيسها، لم تنتهِ بإصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرة توقيف بحق البشير. أول تلك الأسباب هو الضغط على نظام الرئيس السوداني للقبول بانفصال جنوب السودان بالصيغة التي تضمنتها معاهدة السلام الموقعة بين حكومة السودان بقيادة الرئيس السوداني عمر البشير والطرف والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق.
أما السبب الثاني فكان الرغبة التي تأجل تحقيقها في وقته، لسلخ إقليم دارفور الشاسع المساحة والغني بالثروات الطبيعية.
وأتذكر أنني سألت الرئيس البشير في حضور عدد من الزملاء الصحفيين عن سبب قبوله بتوقيع اتفاق السلام مع جنوب البلاد، مع بقاء الوضع في دارفور على حاله من النزاع مع متمردي الإقليم، الذين رأوا في اتفاق البشير - قرنق عنصراً إلهامياً لعملهم في المستقبل. كان جوابه: "لقد قبلنا بانفصال الجنوب سلمياً حتى نمنع انفصال دارفور بالقوة". لكن ما حدث بعد ذلك هو انفصال الجنوب قبل مقتل قرنق، وتحوّل الجنجويد التي دعمها البشير إلى (قوات الدعم السريع) التي ساهمت في إسقاطه وعزله، وأصبحت ترفع راية التمرد والذهاب نحو انفصال دارفور عن السودان!