مقالات
ما الذي ننتظره كيمنيين؟!
يعيش اليمن واليمنيون -جُلُّ اليمنيين- كارثةً محققة. والمصيبة، ونحن في جحيم الكارثة، ننتظر -بسلبية- فاجعةً تُلوِّح بالمزيد والمزيد! جُلُّ المحافظات الشمالية تحت سيطرة مليشيات أنصار الله (الحوثيين)، وتعز (المدينة) تحت سيطرة مليشيات التجمع اليمني للإصلاح والشرعية، أمَّا ريفها فموزع على أكثر من طرف، ومأرب (المدينة) تحت نفوذ الإصلاح والمؤتمر الشعبي العام، وريفها موزع على كل أطراف الصراع.
صراعات الجنوب وتفكك أوصاله أسوأ من الشمال. فعدن ولحج تحت سيطرة الأحزمة الأمنية ومليشيات الانتقالي، المدعومة من الإمارات العربية، مع تدخل سعودي داعم للشرعية، وأبين وشبوة وحضرموت يتنازعها المدعومون من العربية السعودية والإمارات، وأمَّا سقطرى فتنفرد الإمارات العربية بالسيطرة عليها مع الجزر والموانئ، وبالأخص ميناء عدن، ويرفض أبناء المهرة الخضوع للتدخل السعودي والإماراتي في منطقتهم، ومعاناتهم وشكاواهم مريرة من هذا التدخل.
وإذا كان هذا حال اليمن، فكيف حال المواطن فيها؟! اليمن تحت بنود الفصل السابع، وهي محاصرة برًّا، وبحرًا، وجوًّا فضلًا عن الحصار المضروب عليها في الداخل. فالمدينة تحاصر المدينة، والقرية تحاصر القرية، والشمال يحاصر الجنوب، والجنوب يحاصر الشمال. الحصار حصاران: داخلي، وخارجي، والحرب، وإنْ بدا أنها توقفت، إلا أنَّ الأيدي لا تزال أعينها على الزناد، والتحشيد والاستعداد للعودة إلى الحرب لايزال قائمًا.
رغم الوساطات المتكررة، ونشاط المبعوثين الأمميين، والاتفاقات الكثيرة، إلا أنه لا شيءَ من ذلك نُفِّذ، وتبادل الأسرى «الكل مقابل الكل» لم يتم منه شيء. الحصار لم يُرفَع، ولم تدفع مرتبات الموظفين، ولا تمَّ توحيد البنك المركزي، ولا معالجة قضية انهيار العملة وازدواجها في بلد واحد.
ما جرى ويجري هو نهب مدخرات الناس وإيداعاتهم في صنعاء، وتهريب رؤوس الأموال إلى أكثر من بلد، وتفشي المجاعة والأوبئة الفتاكة، وتدهور الخدمات العامة، وغياب الرعاية الصحية وخدمات التطبيب، وانعدم الدواء، وتجريف التعليم، وتزييف المناهج، وتفاقم الاعتقالات الكيفية والاختفاء القسري والقتل خارج القانون، وضَرْب الديمقراطية، ومصادرة الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير، وقَمْع الصحافة، والتضيق على الصحفيين، وتَعَطُل الأنشطة العلمية والثقافية والأدبية؛ وهكذا وقفت الحياة في نواحٍ متعددة بما فيها التجارة، ومؤسسات المجتمع المدني.
لا حاضرَ -شمالاً وجنوبًا- سوى خطاب الحرب، والكراهية، ودعوات الاستعلاء، والانفصال. المليشيات الحاكمة، والكنتونات، التي اصطنعتها كل الكارثة، وهي ماضية في توسيعها بتأجيج الانقسامات والصراعات، وإسكاتِ أيِّ صوت للنقد البنَّاء، وقمعِ أيَّ احتجاج مدني سلمي، جميعهم يعول على الصراع الإقليمي، والدعم الأجنبي، والحكم بالغلبة والقوة والحق الإلهي.
المعضلة أنَّ قادة المليشيات لا مصلحةَ لها في الحل السياسي، وكلهم متمسكٌ بموقعه لا يريد النزول عنه، أمَّا معاناة الشعب وتجويعه وتجهيله وتركه فريسةً للأوبئة الفتاكة والحروب المستدامة تهدد حياته، فلا يعني لها شيئًا. هي كل المشكلة، وهي جزءٌ من حلها، لكن قد تبيَّنَ أنْ لا مصلحةَ لها في الحل؛ فالحل يعني قبول بعضها ببعض، وعدم الارتهان للصراع الإقليمي والدولي، والنزول على الإرادة الشعبية.
اليمن مهددةٌ بصراع هذه الأطراف، وهي الآن تتعرض لتهديد أكبر وأخطر بحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، وتعميم استيطانها في الضفة الغربية، وتهجير أبنائها إلى الأردن وسيناء، وتصفية القضية الفلسطينية. استمرار الحرب في فلسطين ولبنان في انتظار مجيء ترامب؛ لشرعنة الاستيطان؛ وإرغام مصر والأردن على قبول المُهَجَّرين الفلسطينيين؛ وإجبار الدول النفطية على التمويل والإذعان للتطبيع الإبراهيمي.
المنطقة العربية كلها تتعرض لزلزال شديد. فاستبداد الحكام وطغيانهم وفسادهم أسلمَ الأمة العربية كلها للتفكك والتمزق؛ بل ما هو أسوأ من الاستعمار القديم ومخططاته في «سايكس بيكو 1916م»، و«وعد بلفور 1917م».
تواجه الأمة العربية بِرُمَّتها من الماء إلى الماء مخاطرَ العودة إلى مكوناتها الأولى القبلية، والعشائرية، والسلالية، والجهوية، والطائفية. تهويد فلسطين، وقيام الدولة اليهودية على كل أراضيها، وتمدد إسرائيل إلى لبنان وسوريا، ودعاوى نتنياهو في مناطق عديدة من الأرض العربية حتى البعيدة منها هو ما يجري حاليًا.
فساد الحاكم واستبداده أضعفَ حُبَّ الوطن في نفوس أبنائه، وأشعرَ المواطن العربي بالذِّلةِ والهوان، وأفقدهُ القدرةَ على الدفاع عن نفسه وأهله ومنزله ووطنه؛ وأصبح يرى في الغازي المنقذ الوحيد من حاكمٍ غاشمٍ يسومه سُوءَ العذاب.
الجيوش المؤسسة على عداوة الشعوب، وكراهية المواطنين، وازدراء الكرامة والحرية والعدالة- لا تحمي الأوطان؛ بل إنها حتى لا تستطيع حمايةَ نفسها. الجندي الفاقد للحرية والخبز لا يحمي وطنًا، والمواطن المسلوب الإرادة يعجز عن عمل أيِّ شيء.
اليمن ليست أحسن حالاً من شقيقاتها: ليبيا، والسودان، وفلسطين، ولبنان، وسوريا؛ فهي محروبة، منكوبة، مسلوبة، ممزقة، وهي الآن تتنظر حربًا قادمة احتمالاتها حاضرة؛ فما المخرج؟! وما هو الحل؟! لا يمكن الاستهانة بإرادة اليمني.
فهو يستكين حتى يعتقد الحكام موته، ثَمَّ ينتفض من بين الركام؛ وهي حقيقة أدركها المؤرخ الخزرجي: "إنَّ لليمنيين وثبات كوثبات السباع"، وقد تردد صداها في أشعار الزبيري، والبردوني، وجرادة، والمقالح، والمحضار، وهيثم، والشحاري".
لا ينبغي التعويل على حلٍ يأتي من الأمم المتحدة، أو مجلس الأمن، أو الرباعية الدولية- صانعة الكوارث في المنطقة العربية كلها. لا بُدَّ من اليقظة والحذر، والإسراع بالتعافي، وإسقاط حاجز الخوف.
فالتقاء اليمني بأخيه اليمني هو المخرج. الحلُّ يكمن في العودة إلى الحوار، والمصالحة الوطنية والمجتمعية، وتلاقي أبناء القرى والمدن، وجميع الفئات من أبناء الشعب، والضمير الحي من الأحزاب، ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي. هذه هي الخطوة الأولى.
وقبل ذلك وبعده، لا بُدَّ مِنْ رفع الصوت بالاحتجاج والمطالبة (أفرادًا وجماعاتٍ ومجتمعًا) بالحقوق المسلوبة، وصرف المرتبات، وتوحيد العملة، ورفع الحصار الداخلي والخارجي، وإطلاق الحريات العامة والديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير، ووقف الحرب، أو التفكير بالعودة إليها، والدعوة إلى تنفيذ ما يتم التوافق عليه، وإبراز حسن النوايا بتبادل الأسرى، وإطلاق المعتقلين السياسيين والمخفيين قسرًا. الأهم عدم التعويل على حلٍّ يصنعه الآخرون.
فلا بُد لنا -كيمنيين- أنْ نعودَ إلى أنفسنا، ونهتم ببناء ووحدة طننا، وأنْ يقبلَ بعضنا بعضًا، وأنْ نحتكم إلى إرادة شعبنا، ونتخلى عن أوهام التفرد. فاليمن يستحيل أن تحكمها جهة، أو قبيلة أو قبائل، أو حزب أو أحزاب، أو طائفة أو طوائف، ومن باب أولى يتعذر أنْ تحكمها أسرة.