مقالات
ما بين النكبة والكارثة
حرص المفكر القومي قسطنطين زريق على تسمية حرب ١٩٤٨ "النكبة". وقدّم كتيّبه عنها باسم "النكبة". حرب ٥ حزيران ١٩٦٧ سمتها الأنظمة النكسة وسماها الشعب العربي "الهزيمة". ولكن قسطنطين زريق ظل مواصلا ومحافظاً على تسمية "النكبة"، وكتب عن ذلك.
ولا شك أن دراسة الدلالات والمعاني للمفردات، وربطها بالوقائع، ترجح دقة تسمية المفكر والباحث زريق. منذ مجيء اليمين التوراتي برئاسة نتنياهو إلى الحكومة الإسرائيلية، مطلع هذا العام، بدأ الزحف الاستيطاني في التوسع والاستيلاء على ما تبقى من أرض فلسطين في الضفة، وطرد أبناء الضفة، وتقتيلهم لإجبارهم على النزوح إلى الأردن "الوطن البديل".
هدمت المنازل والأحياء السكنية، وتم الاستيلاء على الأحياء في القدس الشرقية بعد اجتياحها، واستُبيح الأقصى، وكنيسة القيامة -أقدم كنيسة في العالم- واعترفت أمريكا بالحق الإسرائيلي في القدس الشرقية، والاستيطان.
في السابع من أكتوبر، نفذ شباب حماس عملية فدائية في الجنوب الفلسطيني "عسقلان وأشدود"، ووادي عربة، وهي الأرض الفلسطينية المحتلة في حرب ١٩٦٧.
وقد أقيمت فيها عشرات المستوطنات والبوتستات (والبوتست: قاعدة تعاونية زراعية واقتصادية، وبالأساس أيضاً أمنية وعسكرية مؤسسوها والآتون منها: ابن جريون وألون، وموشي ديان، وهم أهم مؤسسي الدولة الإسرائيلية، وزعماء الماباي (حزب العمل)، وإلى جانب الجيش والأمن هم من يحكم الجنوب الفلسطيني المحتل، التي أسر منها المقاتلون الفلسطينيون المائتي أسير، ولها حضور كبير في الكيان الإسرائيلي).
الفلسطيني -المهدر دمه والمغتصبة أرضه، والمحتل وطنه، والمعتدى على سيادته وكرامته ل٧٥ سنة- رمى بنفسه في معركة الحياة أو الموت الأزكى والأرحم من حياة في ظل فاشية الاستيطان، ودموية المستوطنين، ورمت دولة الاحتلال الاستيطاني والفصل العنصري بكل ترسانتها وأسلحتها الفتاكة، وطيرانها فائق القدرة وكلي التدمير، ضد المدنيين العزل المحاصرين لبضعة أعوام.
وقف الحكام العرب، وبعض القوى، موقف المتفرج المنتظر نتائج المعركة؛ بعضهم خائب، وعاجز عن الفعل، والآخر يقول لم أرض بها، ولم تسؤني، والثالث موعود بالسلامة. وربما " التنقيط". سيقبل الحكام العرب كلهم بأسوأ مما قبل الملوك العرب في ٤٨، وأدنى وأذل مما قبل القوميون الثوار في ١٩٦٧.
ترى لو كان المفكر القومي قسطنطين زريق موجوداً هل يبقى على تسمية "النكبة"، أم يختار بدلاً منها "الكارثة"؟ ويبقى الدور الآن على لبنان المهدد والأردن والسلطة الموعودين، أما العجزة فلا عزاء. ويبقى الشعب الفلسطيني الأقوى، وإسرائيل هي الأضعف. أي من الموتين يغلب من يذود عن الدّيار، كإبداع أحمد عبد المعطي حجازي.
منذ تأسيس دولة إسرائيل كانت أمريكا وبريطانيا حاضرتين، وكانت أمريكا أول دولة تعترف بإسرائيل بعد ساعات، وكانت حاضرة في كل حروب إسرائيل ضد فلسطين ومصر وسوريا والأردن، وبالأخص حرب ١٩٦٧، وحرب ١٩٧٣، ولكنها في حرب ال٧ من أكتوبر الحالية تتصدر قيادة الحرب، فهي مشاركة في إدارة المعركة، ودفعت بقيادات عسكرية واستخباراتية، وبحاملتي الطائرات، والبوارج الأمريكية، وغواصة نووية وسفنٍ أخرى معززة للأسطول الخامس، ولم تتأخر فرنسا وبريطانيا وألمانيا عن تعزيز القوة الأمريكية.
والماسأة أن المنطقة كلها في قبضة أمريكا، والحكام تابعون لها، وجلهم مطبّع، أو في الطريق.
في مقال مُهم للصحفي الكبير محمد حسنين هيكل (الطائفية سلاح الغرب الأمضى لتفتيت الشرق الأوسط)؛ يتناول فيه بعض الوثائق والوقائع والحقائق، ويدرسها بدقة، ويقول: "ليس كل التاريخ مؤامرة، ولكن المؤامرة موجودة في التاريخ".
ويضيف: "وأقول إن من لا يرى مؤامرة في كل ما فعله الغرب منذ بدايات هذا القرن، فإنه لا يفرق بين الثمرة والجمرة".
ويأتي على تصريحات بن غوريون، وما كتبه باحثون، وقادة أمريكيون، أمثال: مايكل كولينز، وتوديدينون، وشاحاك إسرائيل، وزينيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي، وبرنار لويس الداعية الصهيوني، وكلهم يدعو إلى تفتيت المنطقة العربية، وزرع الفتن، والطائفية، والعشائرية والقبلية، موثقاً لمقالاتهم وأبحاثهم، ومقابلاتهم.
واقع الحال أن الإدارة الأمريكية المتعاقبة والصهيونية العالمية، والأنظمة العربية كلها -رجعية أو ثورية- مسؤولون عما وصل إليه حال الأمة العربية، والشعب الفلسطيني على وجه أخص.
نكبة ١٩٤٨، كان الاستعمار البريطاني يحتل مصر والأردن والعراق والخليج العربي وجنوب اليمن، وفلسطين تحت الانتداب، وفرنسا في سوريا ولبنان. أما نكبة ١٩٦٧، وهي أسوأ بما لا يقاس من نكبة ٤٨؛ لأنها تسببت في ضياع الضفة الغربية وغور الأردن وغزة تحت الإدارة المصرية، إضافة إلى فقدان سوريا الجولان.
لقد احتلت إسرائيل -في حرب ٦٧- أكثر من ضعفي ما احتلته في ١٩٤٨؛ وهو ما تعاني منه أمتنا حتى اليوم، لا يمكن فهم التوحش النازي الإسرائيلي، وعدوانية أمريكا، والاستعمار الأوروبي دون قراءة الحالة العربية القائمة. فالأنظمة العربية كلها قوية على شعوبها وأمتها، وضعيفة أمام العدو حد التواطؤ، البلدان العربية الكبيرة والقوية: العراق، سوريا، ليبيا، اليمن، مدمرة ومفككة، وممزق نسيجها المجتمعي؛ بسبب استبداد أنظمتها، ولم يكن الاستعمار والمؤامرة أيضاً غائبين.
مصر شبه محاصرة، وتونس تعود أدراجها إلى حكم الفرد. التحالف الأمريكي - الصهيوني - الأوروبي مؤآزر ومسنود بالتبعية، وحالة الضعف العربي. أمريكا اللاتينية أقرب إلى فلسطين من جوارها العربي. أمريكا وأوروبا صديقهم الوحيد مصالحهم، وإسرائيل حامية هذه المصالح، وحملتهم غير المسبوقة مصدرها الخوف على حامي المصالح والوكيل الأول.
فشل حرب الإبادة، والحملة الاستعمارية الكبرى لا تتجلى في شيء كما تتجسد في العجز عن التهجير، وصمود شعب فلسطين في غزة والضفة الغربية.
إن كتائب عز الدين القسام تمتد جذورها إلى منتصف ثلاثينات القرن الماضي، وقد عجز اليسار الصهيوني -المؤسس للكيان الإسرائيلي- عن اقتلاعها، كما يعجز اليوم الليكود واليمين التوراتي عن التهجير الثالث، واستعادة خرافة "أرض الميعاد" (يهودا والسّامرة).
الاحتياجات العربية كانت تعبيراً عن أوضاعها البائسة والمهزومة، أما القمة الطارئة والإسلامية في الرياض فبدون الضغط عبر مخاطبة المصالح الأمريكية والأوروبية، التي لا يعرفان غيرها، وبدون كسر الحصار، والوقف الفوري للحرب، فإنهما لا يعنيان إلا عدم المبالاة، أو الاستهانة بإبادة الشعب الفلسطيني.