مقالات
ما يحتاجه حزب الإصلاح
إن ما يحتاجه الإصلاح، ليس مجرد "ضخ دماء جديدة في قيادته" هذا عبارة مضللة؛ تدغدغ روح الشباب؛ لكنها ليست دقيقة في تشخيص المشكلة. ليس مهمًا كثيرًا تصعيد شباب نحو مناصب عليا، لمجرد أنهم شباب. فليكن الشخص في الخمسين من عمره، وكم من عباقرة عبر التاريخ صنعوا انقلابات كثيرة وأنتجوا أعظم الأفكار وهم بهذا العمر؛ بل وأكبر من ذلك بكثير.
إذًا ليست المشكلة الأساسية هنا، بل في غياب" البطل الفكري" في الحزب، العقل النادر ذو التفكير الجذري والشامل، روح جديدة تقترب في قوتها من عقل المؤسس؛ كي تعيد امتلاك الرؤية الجذرية للتنظيم وعمل تحوّل شامل فيها. أين هي، النماذج الفردية العليا، شابة كانت أو تجاوزت منتصف العمر، شخصيات ذات نمط وسلوك مختلف. تنظيم بهذا الحجم، أين هي النماذج العبقرية للفكر والتنظير الرفيع بداخله..؟
وهنا أؤكد فكرة بديهية، من واقع علاقتي بهذا التنظيم، أنه يتمتع بقابلية عالية لاستيعاب أي حالة فردية حرة، قادرة على تقديم رؤية جديدة ومتسقة مع منطلقاته. حتى لو لم يكن الشخص منتمي لهذا الحزب. وهو ما يجعل المهمة على أي مثقف يجد في الحفاظ على هذا الحزب مكسبًا عموميًا جيدا للبلاد. كي يجتهد للاشتغال على أفكار قادرة على احداث نقلة في تصورات التنظيم وسياساته.
شخصيات متمرسة في الفكر والفلسفة، تقبع في الظل، وبينما ضجيج السياسة اليومية تحدث في الخارج، تحتفظ هي بنشاطها المتواصل وبثبات، تضع قدميها في أنشط حقول المعرفة، تتابع أحدث الأفكار، وتطّلع على أرفع ما ينتجه العقل البشري، بما في ذلك أقصى التوجهات المخالفة. تبحث وتقارن وتتأمل ثم تستخلص الرؤية وتضخها في كيان التنظيم، وبما يسهم في تصويب سياسته وتجويدها على نحو أمثل وبشكل مستمر.
يحتاج الإصلاح لهذا؛ لجرعة كبيرة من الحيوية العقلية الفائقة، أذهان جديدة كليًا، هزة فكرية؛ تعيد تجديد أسس التنظيم، غربلتها وتفعيلها. إعادة تنشيط الرؤية والفكرة وفردها أمام الجماهير. وقد اكتسبت صبغة جديدة كليًّا. تلك قوة حيوية وخلاقة، ستحدث فارقًا جديدًا في التنظيم وتستوعب كل ما طرأ له من تأثيرات طوال العقد الأخير من عمره، وتعمل على صهرها داخل منظاره الخاص.
كل الجماعات ذات التصورات الكبرى في الحياة والسياسة؛ تنتهي لمستوى رتيب من الميكانيكية ومع تقدم الزمن، تفقد الأسس والقيم المحركة قوة تأثيرها لدى الأفراد، ويغدو سلوكهم مفصول عن المنابع المغذية له. من هنا تنشأ أخطار كثيرة حول التنظيم، وتتضاعف مشكلاته الداخلية والخارجية منها. بما في ذلك، عجزه عن رسم سياسات تضاعف مكاسب التنظيم وتقلص خسائره.
لقد أسهمت السنوات الأخيرة من عمر الحزب، بمراكمة حالة من التوجسات بينه وبين الأخرين، ونشأت حواجز وأسوار، يصعب تجاوزها، إلا في حالة واحدة، هو أن يتصدى لذلك شخوص لديهم قدرة ذهنية ونفسية عالية، مراجع فكرية وروحية، ذات تفكير كوني عابر لكل الجزئيات. أن يتخذوا مسافة من كل تلك التراكمات ويمتلكون جسارة الحديث بلغة صافية وقناعة صلبة مع الأخر، واستعداد للبدء وقد تم تمتين روابط حية مع الأخرين.
حسنًا، نتحول لفكرة أخرى، وقريبة من سابقتها. كل من تعرّف على الإصلاح أو نشأ على ضفاف قريبة منه، خرج بقناعة مبدئية مفادها " حيوية هذا الحزب" حيث كل فرد فيه تقريبًا، يشتغل كأن الفكرة فكرته هو، إنه يعمل بجهد لا يكل وذلك مصدر قوته. غير أن هذه الميزة المتأصلة في التنظيم، معرضة للتخلخل والضعف في الجيل الجديد للحزب. فتضعف بذلك القوة الحية للحزب والقادرة على تجاوز ارتباكاته.
ليست هذه مشكلة تتعلق بالإصلاح فحسب؛ لكنها تنطبق عليه أكثر من غيره. فهذا الحزب لم يكن مجرد تنظيم سياسي محدود_مهما حاول مؤخرًا الحديث عن نفسه بلغة سياسية صافية، ومعه حق بذلك_ بل كان يقدم لأنصاره تصورًا وجوديًا شاملًا عن الحياة، وعلى نقيض ما يعتقد النقاد. أرى ذلك نقطة قوة للحزب وليس العكس.
غير أن المشكلة اليوم، هو أن تلك الفكرة الصلبة للتنظيم والرؤية الجذرية للحياة، صارت عرضة لخطر النسيان، بحيث لا يتبق منها سوى مجموعة أفكار قليلة وهشة، يتم تكرارها وتداولها بطريقة غير مؤثرة، وبهذا يفقد التنظيم فكرته الحية بين أنصاره الصاعدين، بل ويكون عاجزًا عن فتح جدل حولها مع الأخر وبما يسهم في بعثها من جديد.
في كتابة الخطير عن " الحرية"، يتحدث جون ستيورات ميل عن فكرة مشابهة، يقول : لطالما اشتكى كل الأباء الروحيين للمذاهب والأحزاب الكبرى، من صعوبة ابقاء الفكرة الأساسية للتنظيم، حية ونشطة في عقول المؤمنين بها من أتباعهم، الحقيقة الجوهرية، بحيث تتخلل الوجدان وتسيطر على أذهانهم وانفعالاتهم وتسهم في صناعة سلوكهم بشكل دقيق.
إن الناس حتى وهم يكررون رفع شعارات تثبت ولاءهم لهذا التنظيم أو ذاك؛ لكنهم عمليًا وواقعيًا، لا يفعلون ذلك وهم على اتصال مباشر وحي بأصول توجههم. كما لو أن ثقتهم بفكرتهم، يعفيهم عن ضرورة إدراكها بشكل واع واستحضارها الدائم في نشاطهم. " إن لديهم احترام وولاء لتنظيمهم؛ لكن ليس لديهم ذلك الاحساس القوي بالفكرة، احساس ملازم، ينتشر من الكلمات للأشياء والمواقف، ويجسد ذلك التلاحم بين الذات والمعنى بأعلى صورة ممكنة.
الخلاصة : يعاني الإصلاح من عجز تنظيري كبير بداخله، وهذه فكرة يدركها التنظيم؛ لكنه لم يعمل شيئًا لتجاوزها، من هنا كان حديثنا عن حاجته لعقول فردية تثابر؛ كي تنجح في عمل دفعة فكرية جديدة للتنظيم، ما يشبه انبعاث تأسيسي جديد. هذا الانبعاث سيسهم في تقوية الحزب من الداخل وحلحلة مشاكلة من الخارج أيضًا. تقليص التوترات بينه وبين خصومه، وفي نفس الوقت، ترميم الخلخلة الذهنية لدى الجيل الصاعد منه، وبما يجعلهم يتشربون الرؤية الجديدة ويعزز دوافعهم النضالية بداخله.