مقالات
مطهر الإرياني.. الشاعر الذي راكم على تغريبة اليمني وحكمة الفلاح وإرثه (1-2)
في كتابنا (الهجرة والمهاجرون في أدب اليمن - 2023 )، خصصنا مساحة لقصيدة "البالة" لمطهر الإرياني بوصفها أحد العناوين الصريحة لهذا النوع من الكتابة الشعرية الملتحمة بتغريبة اليمنيين الكبرى، وهي الهجرة، وقد حازت على شهرتها الواسعة بواسطة عملية التلحين والغناء التي قام بها الفنان "علي عبدالله السمة".
سُئل مطهر الإرياني -في واحد من الحوارات- عن حكاية قصيدة "البالة"، فقال: "وأنا طفل صغير كان في قريتنا شخص اسمه أحمد ظافر، وكان كبيراً في السن، ولكن أمه كانت أما لنا كلنا، وكنا نسميها الجدة قبول بنت العنسي، وفي لحظة متبادلة سألتها أين ظافر؟ فقالت: هج (هاجر ضنكا) هججوه القضاة والمشايخ… فقلت: إلى أين سافر؟.. فقالت: إلى الحبشة.. والله يا بني أنه ذهب وما في جيبه إلا قرصين فطير (خبز بلدي)، وليس لديه ما يصرف منه، عندما سمعتها وشاهدتها تبكي وأنا طفل بكيت معها؛ وظلت حكايتها مؤثرة في نفسي إلى أن شفيت غليلي في «البالة» إلى حد أنه كان من يسمعها في قريتي يقول: مسكين مطهر كم تعب وكم سافر وهاجر.. وكأنني أنا الذي هاجرت"- من حوار مع أحمد الأغبري.
تبدأ القصيدة بلازمة الموال - الذي تفتتح به جلسات السمر في مناطق اليمن الأوسط، بطريقة الدان الحضرمي ذاته - بتصوير شوق المهاجر إلى أرضه التي يتذكرها من خلال نسمة سارية تهب من بلاده التي تركها هناك في المشرق (شرق البحر).. حملت فيها روائح الكاذي، وفيها أيضا شذى البن الذي يزرع هناك.
كلا الرائحتين مع الهمسة الحانية، التي تتوقد بداخله، تشعلان ذكريات أيام الِصباء في الأرض، التي تزداد غلاء ومهابة وحبا، كلما ابتعدنا عنها.
"البالة والليلة البال ما للنسمة السارية..
هبَّت من الشرق فيها نفحة الكاذية
فيها شذى البن فيها الهمسة الحانية..
عن ذكريات الصبا في أرضنا الغالية".
في الفترة ذاتها أو قبلها بقليل ظهرت أغنية "خطر غصن القناة"، التي كتب كلماتها ، بصوت الفنان علي بن علي الآنسي، التي لم تزل حتى يومنا هذا واحدة من أيقونات الغناء اليمني (صوتاً ولحناً)، وانطلقت في الأصل كنص شعري من إعادة تطويع الحكاية الشعبية (الدودحية)، التي تشير إلى تمرد الفتاة على سلطة العائلة، وهروبها مع من تحب، غير أن السلطة الأكبر لم تنتصر لقرار الفتاة، وانتصرت في حكمها لسلطة العائلة، التي قالت إن العيب طاردها..
الحكاية واقعية وترد في أكثر من مصدر، غير أن المخيال الشعبي أضاف إليها كثيراً، وكأنه كان يحاول الانتقام من السلطة الاجتماعية وتغولها، لأن أسرة الفتاة كانوا من كبار ملاك الأراضي في المنطقة الوسطى لليمن.. وغير الشاعر الإرياني، تلقف الحكاية شعراء آخرون وكتبوا نصوصاً وجدت طريقها لأصوات المغنين، ومن هؤلاء الشعراء عبدالله سلام ناجي وقصيدته "الدودحية"، التي غناها، وبلحنين مختلفين، الفنانان "فرسان خليفة " و"محمد عبده زيدي".
تقول كلمات أغنية "خطر غص القنا" للإرياني:
"خطر غصن القنا .. وارد على الماء نزل وادي بناء .. ومرِ جنبي
وبأجفانه رنا .. نحوي وصوب سهامه واعتنى .. وصاب قلبي
أنا يا بوي أنا .. أمان يا نازل الوادي أمان
أخذ قلبي وراح.. وشق صدري بالأعيان الصحاح.. يا طول همي
ويا طول النواح.. من حب من حل هجري واستباح.. قتلي وظلمي
أنا يا بوي أنا .. أمان يا نازل الوادي أمان
لمه تقسى لمه .. وتهجر ابصر حبيبك ما أرحمه .. هايم بحبك
ترفق وارحمه .. لا تعدمه الجفا شا تعدمه .. والذنب ذنبك
أنا يا بوي أنا .. أنا يا بوي أنا
أخذ قلبي وراح .. وشق صدري بالاعيان الصحاح .. يا طول همي
ويا طول النواح .. من حب من حل هجري واستباح .. قتلي وظلمي
أنا يا بوي أنا .. أنا يا بوي أنا".
أغنية "الحب والبن"، التي لحنها وغناها الفنان الآنسي أيضاَ، هي الأخرى عنوان بارز لتلاحم الإنسان بالأرض حين تنتج الثمرة المرتبطة بثقافة اليمنيين وأحد رموزهم الزراعية التاريخية إلى جانب فاكهة العنب، فصارت في كثير من التناولات هي الملحمة الحية التي تلخص خبرة اليمني وطقوسه ورموزه الزراعية:
"طاب اللقاء والسمر على قران الثريّا
قران تشرين ثاني ألف مرحب وحيّا
هيا بنا يا شباب الجوّ الأروع تهيّا
هيا نغني سوى للحب وأحلى الأماني
اليوم طاب السمر على طلوع القمر
طاب الجنى في الشجر وافتر ثغر الزمانِ".
بصوت الفنان أحمد السنيدار، ستتشكل أغنية "ما أجمل الصبح في ريف اليمن"، لتصير امتداداً لاشتغالات الشاعر على عطايا الريف، بوصفه الملاذ الحقيقي للإنسان اليمني، وما المدن إلا تعليباً لمشاعره وتقيداً لحريته:
ما أجمل الصبح في ريف اليمن حين يطلع
ما ابهى وما اصفى هواه
لما يصفق لإبداع الطبيعة ويرفع
لها روائع ثناه
واغصان ترقص على نغم النسيم المودع
من الخمائل شذاه
وأزهار تفتر عن لون الثنايا المشعشع
وعن ورود الشفاه
والزرع عبر الحقول أمواج تذهب وترجع
زاخر بوافر عطاه
والبن مثل الحلل من سندس اخضر مرصع
بالدر داني جناه
ما أحلى العقيق اليماني فوق سندس موزع
في كل وادي تراه
وفي الربى الخضر لول الطل في الضوء يلمع
مثل الهوا في نقاه
وفي السهول والسفوح السحر والحسن الأروع
وفي الشوامخ ذراه.
هذه الأغنية كانت اجتزاء لأبيات من قصيدة أطول عنوانها "ملحمة الريف" قام بتلحينها وأداء أجزاء منها الفنان محمد حمود الحارثي، وهذا النص في خلاصته تفاصيل حياة الريف، قبل ابتلاعه المديني، بدءا من استيقاظه في الفجر حتى هجوعه الليلي فيبدأ بهاتين البيتين التصويريين:
استيقظ الكون كنِّي به تِمَلْمَل وجِمَّعْ لَّما تمطَّى قواه
يا الله رضاك يا معين استيقظ الريف وأسرع يطلب من الله رضاه.
وبين حالتي الاستيقاظ والنوم تصاغ رحلته اليومية في الحقل والغناء والسمر، لتصير تصويراً تاريخيا وثقافياً لحياة اليمنيين والتحامهم بريفهم العظيم.
أغنية "يا دايم الخير دايم"، التي لحنها وغناها الفنان محمد قاسم الأخقش، هي واحدة من حفريات الشاعر في مدونة الفلاح اليمني وخبراته التي تكثفت في مقولات الحكيمين الزراعيين علي ولد زايد، والحميد بن منصور، لتصير مع مطهر بن امتدادا معاصراً في زمننا:
يا دايم الخير دايم
على الجبال والتهايم
شَنَّت عليها الغمايم
بالجود رايح وغادي
بلادنا يا سهول اتوسعي للمعاول
بلادنا يا حقول اتموجي بالسنابل
فلاح أنا يا جبال شارد عاليش سافل
وابني من السفح لا القمة مقاسم مقاسم..
"أوبريت هيا نغني للمواسم"، الذي لحن أجزاء منه الفنان علي الأسدي، وأدَّته بشكل تمثيلي وغنائي فرقتا الفنون والإنشاد في وزارة الثقافة، هو الخلاصة لهذه الرحلة مع عطايا الأرض وعرق الفلاح وحكمته، وصار التوظيف الرمزي في عديد من أجزاء النص خوضاً مهما في إرث اليمنيين وتاريخهم وجغرافيتهم غير المجزأة:
من (زبيد) لا (عدن) لا (أرحب) و(صعدة) و(صرواح)
تشهد أرض اليمن في مطلع الموسم أفراح
عاد عبر الزمن (نيسان) من بعد ما راح
راعد الصيف حن والخير جاء بارقه لاح
يا شويق الحجن يا سعد من كان فلاح.
و(لا) ملفوظ دارج لمنعى (إلى)
في النصوص الغنائية تتكرر العديد من المفردات المرتبطة بمواسم الزراعة عند اليمنيين، ومنها مفردة "علاّن"، لتصير أحيانا عنواناً للنص؛ مثل "علان موسم الخير":
يا بلادي والآن أينع في العلان زرع الحقول والوديان
وبدا الحَبُّ في السنابل كالدُرِّ جنياً بخيره الجم داني
أوعلّنت علّنت سار الخريف نحمد الرب
علّنت وأعلنت أن الذرة حاصية حَب
وعلان هو موسم الحصاد عند اليمنيين ويبدأ مع أول شهور الشتاء، وكل ما يأتي في علاّن وغير علان فإن العلاَّني منه هو الأجود والأفضل مثل البُرّ العلاّني والعسل العلاّني والسمن العلاّني، كما يقول الإرياني في معجمه (المعجم اليمني في اللغة والتراث).
يتبع..