مقالات
مطهر الإرياني حارس الهُوية اليمنية (1)
يصعب على المرء أن يحصر علَّامة اليمن ومؤرّخها وشاعرها، مطهر الإرياني، في فنّ أو تخصص معيّن، فهو بحر معرفي متلاطم، أوقف حياته على اليمن، ونذر عمره وأفناه في خدمتها، وازاحة غبار السنين والقرون الذي غطّى ملامح وجهها البهي، فغاص في تاريخ البلاد وأحداثها، واستغرق فيه باحثاً ومنقباً ومتأملاً في تفاصيل حياتها، ومتغلغلا في أعماق روحها يتحسس مواطن القوّة والضعف في أعماق الشخصية اليمنية، كي يتمكّن من تعزيز الأولى ومعالجة الثانية.
في خمسينات القرن الماضي، تمكّن راحلنا من الذهاب إلى مصر والالتحاق بكلية 'دار العلوم' في القاهرة، في قسم الأدب العربي، وكان قبلها قد حصل من العلوم الشرعية في مسقط رأسه (إريان) ما يؤهّله لكي يكون قاضياً، إضافة إلى قراءته أمّهات الكُتب في التاريخ والأدب والشعر، وقد كان منذ صباه وصغر سنه شغوفاً بالتاريخ، خصوصاً تاريخ اليمن الحضاري، ويحكي في إحدى مقابلاته الصحفية عن بداياته الأولى بقوله "اهتماماتي التاريخية، وبخاصة في مجال النقوش، ولغة المُسند اليمنية القديمة، تمتد إلى أكثر من ستين عاماً. وكانت البداية مصادفات عجيبة ... فقد أخذتُ حروف المُسند (حروف اللغة اليمنية القديمة التي تعد من أصول العربية) من بعض مخطوطات جدّي، وأنا مازلت في سنّ الطفولة، ومنذ ذلك الحين أصبحت قراءة النقوش المسندية، والبحث في تاريخ اليمن القديم همِّي الأول، وبخاصة عندما عرفتُ أن هذه النقوش هي الوثائق الصحيحة للتاريخ اليمني القديم ... هذا التاريخ الذي لم تكتمل قراءته بعد، فما هو متوفر عنه من مراجع مليئة بالأساطير .. من هنا تجلّى البحث في نقوش التاريخ اليمني القديم همّي الأول".
وقد سعى في قصائده الأولى وما زال في سنّ مبكرة لكتابة القصائد، التي تعزز الوطنية اليمنية، وتهتم ببعث مجد اليمن الحضاري، ومثله كان في الشغف أخوه الراحل الدكتور عبد الكريم الإرياني، أحد ألمع وأبرز السياسيين العرب -رحمهم الله-، إذ نشر -وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره- قصيدة في جريدة 'النصر'، تتناول عراقة اليمن، وعظمة انجازاتها. وقد أشاد القاضي الراحل رئيس اليمن الأسبق، عبدالرحمن الإرياني، بروعة تلك القصائد، حين وصلت إليه آنذاك، وكان حينها مع بقية الأحرار مسجوناً في سجن حجة، وحثّ مطهر على إرسال القصيدة ونشرها. وقد تطرق القاضي الإرياني إليها في رسالة كتبها إلى أخيه خارج السجن، ونحن ننقل جزءا منها على طولها، وذلك لأهمية ما ورد فيها، حيث " ثإن القصيدة رائعة والموضوع شيِّق وخصب في آن واحد، ولذلك قلت لكم إنه يُحسن إرسالها إلى النصر، فإنها خليقة بالنشر، ولاسيما وقد نشرت قصيدة الولد عبدالكريم، وهما تتفقان في الموضوع الشريف، والغاية السامية، وهل أسما وأشرف من أن يتغنّى الشاعر بتاريخ آبائه وأمجاد أجداده، وبالأخص إذا كان تاريخًا يرفع الرأس عاليا، ومجدًا تعنو له الأيام، ويخضع له الدّهر كتاريخ آبائنا، ومجد أسلافنا، ولو لم يكن في هذا التغنّي إلا الإهابة بالأمّة إلى الالتفات إلى ماضيها المجيد المشرق بنور العلم والرقي والعمران، فلّعلها أن تأنف من حياة الذّل، والاستعباد والتبعية والاسترقاق، التي ضُربت عليها من قبل ألف عام، وعساها ان تخجل من أولئك الآباء ذوي التاريخ الشامخ والعزّ الباذخ، الذين دوّخوا الدنيا بالعمل والعرفان، وأبقوا من الآثار ما غالب الأيام، وقاوم أعاصير الزمان، أن يروهم في هذا الذّل والصغار.. ذلك كله ممّا نحبذه وندعو إليه، ونرجوا الأولاد جميعاً أن يتجهوا صوبه، ويدعوا إليه بحكمة ومثابرة، وأن يشعروا أنفسهم دائماً بأن الله لم يشأ أن يعيشوا في بلادهم عيش العبيد". [مذكرات الرئيس القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني الجزء الأول].
جاءت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م لإعادة اليمن إلى طريق الحياة، وبعثت البلاد من أقبية العصور الوسطى، وكهوف العزلة والانحطاط إلى مشارف القرن العشرين، وقد أدرك المخلصون من الشباب الوطني أن الثورة، التي أزاحت نظام الإمامة، لم يكن لها أن تنجح وتتحقق في ميادين النضال العسكري، وحسب، بدون مواجهة الإمامة ثقافيا، وفكريا، لذلك توجّه علّامة اليمن ومؤرخها بعد الثورة مباشرة نحو الشعب، ومخاطبته بلغته وإعادة بناء الشخصية اليمنية، التي سعت منظومة الإمامة لتحطيمها، وطمس معالم هُويتها الحضارية، وتسميم روح المجتمع، من خلال تمجيد ثقافة الحرب والقتال والثارات، وتحقير قيم العمل والبناء، لتحول المجتمع إلى جماعات مقاتلة، حينها انطلق حارس الهُوية اليمنية وشاعرها نحو كتابة القصائد التي تمجد العمل، وتخاطب الفلاح والعامل، وتحثّه على البناء والزراعة.