مقالات

مطهر الإرياني: فنان الهوية اليمنية (2-1)

25/05/2025, 09:05:34

كلمة واحدة بإمكانها وصف شخصية الشاعر والمؤرخ مطهر الإرياني، وأبعاده المتعددة: فنان.

فنان في شعره الغنائي، وفي حفرياته العميقة في نقوش اليمن وتاريخها. فنان في تعبيره عن الإنسان اليمني، وما يمور داخله من حزن وحُلم وفرح ومحبة. فنان في كل ما لمسته يده وما اهتم به وما عبَّر عنه، واختاره معنًى لحياته وشعره وأبحاثه وكتاباته. 

يكاد أن يكون ذكاء الروح سِمة أساسية في وجه مطهر بن علي الإرياني؛ الشاعر والمؤرخ، والشخصية الأصيلة.

في ملامحه ذكاء مضيء، ذكاء نبيل، نباهة الفنان وذكاء قلبه لا فحسب عقله وطريقة تفكيره ونظرته لنفسه وللحياة من حوله. عمق حدسي يمنحه القدرة على التقاط إشارات الحياة في ماضي الإنسان اليمني وحاضره.

ذكاء روح، كان مطهر ذروته العليا، ويتبدّى يهذه الصيغة أو تلك كأنّه معطى أساسي ظاهر في شخصيات متميّزة خرجت من هذه الأسرة، وكأنها هُذِبت ونمت عبر أجيال متعاقبة: القاضي عبد الرحمن، الشاعر والمؤرخ مطهر، السياسي عبدالكريم، الأديب محمد عقيل، الحزبي اليساري يحيى بن القاضي، وآخرين لستُ في وارد حصر أسمائهم هنا، وبالتأكيد ليس من بينهم معمر، الحامل لقبهم، ولكنه النقيض الجذري لهم، من أينما نظرت له.

مطهر الإرياني حالة نوعية نادرة في اليمن كلها، شخصية جامعة متفردة، فردانيته لا تُفهم بمعزل عن بيئته الأولى، لكنها لا تختزل بها.

هو ثمرة موهبة أصيلة، وتكوين ثقافي ثري وواسع، ووعي تاريخي مُدهش، جعل منه فناناً متعدد الأبعاد

والحديث عن بيئته الأسرية ليس محاولة تفسير لفرادة شخصيته، بل إشارة إلى أحد المؤثرات التي مكّنته أن يقدِّم أفضل ما لديه كشاعر ومؤرخ.

بيئة أسرية امتلكت تراكما ثقافيا وتربويا ما، كانت بمثابة التكوين الأولي والنواة المحفِّزة التي منحت مطهر بن علي الإرياني، والشخصية "الإريانية" عموماً، القدرة على التعبير الخلّاق عن ذاتها عبر أفراد متميّزين في أكثر من حقل في المجال العام.

بالتأكيد، لا يتحدد المرء بلقبه أو انتمائه لأسرة، منطقة أو طائفة، بل بشخصيّته وموهبته واختياراته.

تقدير البيئة الأولية يتحدد من هذه المعايير المدنية في الحقل العام. بروز عدة أسماء في جيل واحد يقول إن هذه "ظاهرة" تنم عن ثراء قيمي ومدني، وانتماء وطني أصيل.

في النصف الأول من القرن العشرين كانت البيئة الأسرية ذات الاهتمام الثقافي والمعرفي هي المدرسة الأهم التي تؤثر في تشكّل الفرد، وإنضاج اهتماماته ومسار حياته.

نشأ الإرياني في هذه البيئة الأسرية، وعبرها غدا متصلًا بجذر أعمق؛ إرث سردي وطني كانت أسرته جزءا منه، إرث حمل معه الشعور المبكر بالمسؤولية تجاه الهوية اليمنية: تاريخ ولغة وموروث شعبي وغنائي، ونقوش مسندية، ومهاجل، وكل ما تركه اليمنيون من موروث ثقافي.

هو نتاج لهذا التراكم وخلاصته وذروته القصوى: ذهنية مصقولة، جرأة رزينة، ودهاء قضاة متجذرين في الانتماء العميق لفكرة واضحة تكاد أن تكون فطرية عند رموزهم الكبيرة: الهوية اليمنية.

ذهنية تُعلي من قيمة الانتماء اليمني باعتباره هوية تحررية وليس هوية استعلائية.

تاريخيا، كان الكاتب المنتمي لفكرة الهوية الوطنية اليمنية فقهيا أو أديبا أو قاضيا أو مؤرخا، ويعبِّر عنها بالقدر الذي تصل إليه موهبته وقدراته.

من هنا يمكن وضع مطهر الإرياني في سياق أسماء حفرت مثلَه في وعي الهوية: الهمداني، نشوان الحِميري، الشوكاني، المقبلي، الأكوع، الشماحي؛ جميعهم انشغلوا بإعادة كتابة التاريخ اليمني من زاوية حضارية ووطنية.

مطهر الإرياني ينتمي لهذه السلسلة، كمؤرخ فذ ومهتم في أبحاثه ودراساته التاريخية واللغوية بالهوية اليمنية. 

انتقاله المبكر في بداية شبابه إلى عدن، ومنها إلى القاهرة، فتح أمام موهبته فضاء أوسع.

هناك تفتّح وعيه المدني، وتأصل مشروعه الثقافي والتاريخي.

في معهد العلوم بالقاهرة التقى بشخصية مهمة كان تأثيرها واضحا عليه: معلمه اليمني أبو الفضل الهمداني، وهو عالم إسماعيلي ألّف كتابًا في تاريخ الدولة الصليحية، وأسهم في تعميق إدراكه لأهمية النقوش اليمنية القديمة، وربطها بالهوية الوطنية.

-يعيد الاعتبار للدمعة في وجه أمّ، ويمنحها مقام الملحمة

لا انفصال بين مطهر الإرياني الشاعر، ومطهر المؤرخ والباحث في النقوش ولغة المسند والتاريخ اليمني القديم.

قصائده المغناة هي الصدى الإنساني العميق لقراءاته في النقوش، للهجات الفلاحين، للمهاجل والرقصات، عزفت أشعاره نغمة اليمنيين، مهاجلهم في الحقول، اغترابهم وحنينهم، آهات أوجاعهم، وخفقات الحُب في قلوبهم.

كتب لحارس البُن في وادي سبأ، وبصوت الفنان علي الآنسي غنى لسندس أخضر مطرز بالعقيق اليماني، لسحر ما له مثيل في الكون قاصي وداني.

أقسم للوطن بصوت الفنان المعطري: يا بلادي نحن أقسمنا اليمينا.

لخير الأرض اليمنية والفلاح اليمني كتب "ملحمة الريف"، و "هيّا نغني للمواسم"، وأطلق نداءه بصوت الفنان علي الأسدي: "يا دايم الخير دايم على الجبال والتهايم".

طرز قصائده بتاريخ اليمن، بألوان من فن هذا الشعب من عهد حِمير: باله ومهيد ومغنى، ودان واليل داني.

في قلبه ظلت صورة "قبول" ودمعتها على ابنها "ظافر" تطارده. كان طفلًا حين رأى دموعها على ابنها الذي طفح قلبه من الظلم والقهر، وغادر بلاده بلا زاد ولا رجعة، شاهدها تبكي وبكي معها.

كانت دمعتها مهمازاً لكز قلب الطفل، وبذر فيه إحساسا عميقا بمأساة اليمنيين. الظلم والقهر في وجه أم ظافر غدا تجسيدا لعذاب يمني يكرر علامة استفهام كبرى: ماذا يعني أن تكون إنساناً في بلد يهرب منه أبناؤه ويختفون في المجهول خلف البحار المظلمة تاركين الحزن والحنين في قلوب أمهاتهم وأحبائهم؟!

من هذه الذكرى في قلب الطفل خرجت ملحمة "الباله":"البالة والليلة البال. الليلة العيد وانا من بلادي بعيد، ما في فؤادي لطوفان الأسى من مزيد، قلبي بوادي بنا وأبين ووادي زبيد، هايم وجسمي أسير الغربة القاسية".

كتبها مطهر الإرياني كأنها فعل شفاء داخلي، قال عنها: “شفيت غليلي”.

كتبها ليرد الاعتبار لأوجاع المهاجرين، والنازحين من وطنهم تحت وطأة القهر والظلم. كان يعيد الاعتبار للدمعة الحرّى في وجه أمّ، ويمنحها مقام الملحمة.

أما أغنية "خطر غصن القنا"، التي غنّاها علي بن علي الآنسي، فهي تمثيل آخر لهذا الحس الإنساني، وإن جاءت عبر بوابة الحكاية الشعبية. استلهم فيها «الدودحية»، وتجلى فيها كشاعر ينحاز للحق والجمال ممتزجين معا في نغمة واحدة.

ثمة شعراء يبثون الحياة في اللغة، لكن الإرياني فعل ما هو أعمق: جعل اللغة الشعرية المغناة تُصغي لحياة كاملة، وتعيد تكوينها.

لم يكن طموحه أن يُدهش بالتراكيب الفارغة من معانيها. ذهب في طريق آخر نقيض للادعاء والزخرفة وفراغ المعنى.

استعاد في ثنايا شعره نبض حياة الإنسان اليمني المهمل في هوامش التاريخ، والمثخن بجروح المآسي المتعاقبة.

حين تقترب من أعماله الشعرية، لا تصطدم بنزعة فردانية مغلقة. هو مبدع امتزجت فردانيته بالروح العامة لشعبه، دونما ادعاء في الإحساس، أو خطابية سطحية في الكتابة الشعرية.

عبّر عن اليمنيين ولم يتعالَ عليهم. لم يفقد ذاته في الرمزية الجوفاء، وبالوقت نفسه لم يسقط في المباشرة البلهاء.

اهتمامه بالشعر الشعبي، بالموروث الغنائي، بالمسند، وباللغة اليمنية القديمة، كان جزءا من مشروع أوسع: إعادة صياغة صورة الإنسان اليمني، تاريخياً وجمالياً، خلاصته تذكر اليمني أنه كان صانع حضارة لا مجرد ضحيّة. 

بلاد بكلها تسكن في نغمته

يحلِّق مطهر الإرياني عاليا في كل ما صدر عنه: شعراً ونثراً، سرد تاريخي وسيرة حياة.

روح يمنية عظمى تحلق في سماء الحاضر وحقب الماضي، يلمّ بتفاصيله كلها. لا يصفه من خارجه بل يغوص فيه، ويتماهى في تفاصيله قبل أن يستوعبه عقله وتصوغه كتاباته.

هذا الشاعر الفذ، والمؤرخ الموسوعي الذي يستقصي أضابير الماضي، وآفاق الحاضر، هو -بلا شك- مرجع الحركة الوطنية اليمنية الأول، وصوتها الأصدق في الشعر والتاريخ والهوية.

مطهر الإرياني تربّع وحده "فوق الجبل" يعزف النغمة اليمنية، التي أتقن التقاط ترددها، وترجمها أغانيَ وأناشيد وأوبريتات فنية ومؤلفات تاريخة ونثرية لا تموت ولا تتقادم، وكلما قاربتها وجدتها نابضة بالحياة:

لو كان في الكون من يعبد سوى الرب الأرفع

واستغفره لا سماه

صليت لك يا بلادي كلما جيت موضع

أقمت فيه الصلاه

بطاهر التربه أتيمم وفي التربه أركع

وأخشع خشوع التقاه

واعيشْ للريفْ (راهبْ) وامنحه عمري أجمعْ

وما (صليبي) سواه

واعْلُمْ مراسيم للتعميدْ في كل منبعْ

واغسل جميع الخُطاه

(ثالوثي) الطين، والماء، والجمال المنوّعْ

في كل ما في رباه

(نشيد الانشادْ) شعري و(البخور المضوّعْ)

قلبي وروحي فداه

* سأتناول مطهر الإرياني المؤرخ والباحث في اللغة اليمنية القديمة في الجزء الثاني من هذه المقالة.

مقالات

ماذا عدا مما بدا؟!

كل المؤشرات تصب في إطار واحد، وهو أن ما يحدث في اليمن يزداد تعقيدًا ووحشيةً وسوادًا، ولا يلوح في الأفق أي أمل في مقاربة يمكن أن يستوعبها العقل أو منطق التاريخ.

مقالات

الفاشلون سياسيًا يحتفلون

في 22 مايو 1990، خرج اليمنيون إلى الشوارع يحتفلون بوطنٍ واحدٍ، بجغرافيا لم تعد مقسّمة على خارطتين، وبعلمٍ واحدٍ يرفرف فوق سارية الأمل. كان ذلك اليوم إعلانًا لحلمٍ كبيرٍ اسمه الوحدة اليمنية، حيث تعالت الهتافات، وزغردت الأمهات، وغمرت الفرحة الجميع. لكن بعد 35 عامًا، يبدو أن المسافة بين الحلم والواقع أصبحت أبعد من أي وقتٍ مضى.

مقالات

الوحدة والاقتصاد المأكول

في 22 مايو 1990، خرج اليمنيون إلى الشوارع يحتفلون بوطن واحد.. بجغرافيا لم تعد مقسمة على خارطتين، وبعلم واحد يرفرف فوق سارية الأمل. كان ذلك اليوم إعلانًا لحلم كبير اسمه الوحدة اليمنية، وكان من الطبيعي أن تتعالى الهتافات، وتزغرد الأمهات، لقد عشت تلك الفرحة وأنا في السابعة من العمر، وأشعلنا النار على أسطح المنازل وقمم الجبال، كان لدي شعور بأننا قادمون على فرح عظيم، كيف لا؟ وهو حلم الشعب بأن تختفي براميل الشريجة، ويُمحى ذلك الخط الوهمي بين الشمال والجنوب.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.