مقالات

معركة بيع الوهم

09/06/2025, 15:58:10

قبل أسابيع قليلة، كان الكثير من "كهنة" الشرعية ينثرون الوعود باقتراب الخلاص من الحوثي. 

احتشد مسؤلون وناشطون وصحفيون على الشبكات الاجتماعية يروِّجون للحسم المنتظر على وقع الضربات الأمريكية. 

محافظ محافظة عن بُعد ووزير دولة ينام ويستيقظ على الأيمان المغلظة بأن نهاية الحوثي باتت مسألة وقت. 

صحفيون داوموا على كتابة "التحليلات" عن التشكيلات والأطراف المنتخبة للحرب القادمة، وعن المخاوف حيال بعض الأطراف التي يُخشى منها؛ لإضفاء مسحة من التراجيديا عن الخلاص الوشيك!

كان هؤلاء يعيدون بيع الوهم الذي سوّقه التحالف للشرعية كجزء من إستراتيجية احتواء حالة الغضب الشعبي.

في الواقع لم تكن الضربات الأمريكية تطوراً في الأزمة الداخلية المعقّدة، بل فتحت ثغرة في جدار الحرب المنسية في البلاد.

ربما كانت مخاوف الحوثي غير مسبوقة منذ وضع يده الباطشة على صنعاء في سبتمبر 2014، فالضربات التي تقوم بها القوة العظمى، التي ترسم خرائط العالم، تعطي زخماً للقوى المناهظة له، وتصنع فرصة نادرة وظروفاً مثالية للانقضاض عليه. 

كان الحوثي يقف على ما يشبه اليقين بأن الإذن الذي حصل عليه من واشنطن وبعض العواصم الإقليمية للسيطرة على صنعاء يوشك على النهاية. 

المفارقة أن القلق الذي عاشه الحوثي هو نفسه، وربما أكبر منه عاشه التحالف الذي يدير الأزمة منذ أكثر من عشر سنوات!

ما ضاعف قلق التحالف، أو الفاعل الأهم بين أطرافه، هو أن الضربات أرسلت إشارات قوية برغبة أمريكا بتحريك قوات محلية على الأرض، ما قد يربك ترتيبات الرياض وأبوظبي.

هذه الإشارات برزت بصورة واضحة من خلال استهداف خطوط التماس، والضخ الإعلامي من طرف المصادر الأمريكية عن تحرك لتأليف قوات محلية لخوض معركة فاصلة مع الحوثي.

في هذا السياق، ارتفع منسوب الأمل لدى اليمنيين باستنقاذ بلدهم، واستعادة عاصمتهم، وإنهاء كابوس الحوثي.

لم يكونوا يراهنون على ضربات الأمريكيين، بل على رفع الفيتو الأمريكي في القضاء عليه.

كان هذا الشعور مدفوعاً بألم عميق جراء الاعتداءات التي جلبتها المليشيا الحوثية، بتحويل بلد منهار إلى مِنصة للمناورات الإيرانية.

هذه التفاعلات جعلت من الضربات الأمريكية، ليس كابوساً على الحوثي فحسب، بل كابوساً على التحالف نفسه!

لذلك تجلى هذا القلق في تحركات دبلوماسية نشطة عكست حالة الإرباك التي أحدثتها الضربات.

لم يكن متوقعا مثلاً أن دولة معادية كإيران وُضعت تحت الضغوط الأمريكية القصوى ستستقبل زيارة مهمة لوزير الدفاع السعودي في لحظة قُرئت كأنها 'موقف مهادن وضعيف من قِبل الرياض' في ذروة الضربات ضد الحوثي.

ولطالما راهنت الرياض على إصغاء وإذعان حلفائها المحليين الطويل، بتسويق المبررات الخارجية لإبقاء الوضع جامداً بلا أفق لسنوات، تارة بانتظار المتغيِّرات الداخلية الأمريكية، وما ستسفر عنه الانتخابات، ومرات تحت ذرائع حرب غزة وتطوّرات البحر الأحمر.

إن حالة الأمل، التي غمرت اليمنيين، بحلحلة الملف، الذي فاقمه التحالف أكثر طيلة عشر سنوات كأزمة طويلة مع الضربات الأمريكية، شكلت ضغطاً -بمستوى ما- على الرياض وأبوظبي، لذلك انتهجت العاصمتان إستراتيجية احتواء للداخل اليمني تقوم على تصدير الطمأنينة للشرعية، وذلك لكبح أي تحرّك غير متوقع.

كان أكثر ما يُقلق الدولتين تحوّل إدارة ترمب نحو تشجيع تشكيلات الحكومة الشرعية على خوض حرب برية ضد الحوثي مع نشاط أمريكي ملحوظ لإجراء مباحثات متعددة، في ظل استمرار الضربات دون تأثير حاسم.

في اللقاءات والغرف المغلقة، كانت الرياض تعمد إلى الحديث مع الشرعية عن تحرّك عسكري مؤكد، أسندته بإرسال بعض العتاد إلى بعض المحاور والجبهات، كما فعلت في أوقات سابقة ثم سحبته!

أما أبوظبي فقد شرعت في تقسيم مسرح العمليات العسكرية.

وبينما منحت بركاتها لبعض التشكيلات، رفعت الإشارة الحمراء في وجه البعض الآخر، لإضفاء بعض الأكشن، حتى إن صحفيين كانوا يتلقون الكثير من هذه التعليمات، ويكتبون تحليلاتهم كسيناريوهات متوقعة، ويخوضون لأجلها المعارك!

شخصياً جمعتُ الكثير من المعلومات من مصادر عديدة طوال فترة الضربات الأمريكية، لكنني كنت أُحجم عن النشر. 

كنتُ أشكك في جدية التحالف لعدة أسباب، أوضحتها لنا، أكثر مما يجب، عشر سنوات من العبث المرتّب.

المشكلة أن الكثير من الذين انتابتهم موجة التفاؤل، وقتها، كانوا يعرفون أن الرياض استقبلت، في نهاية رمضان الفائت، وفداً حوثياً مشمولا بالعقوبات الأمريكية، لكنني لا أعلم حقاً ما إذا كانوا قد فهموا مغزى أن تبذل السعودية لدى ترمب مساعيَ وقف الضربات الأمريكية، وقد وقفت بفضلها.

لا نريد أن نكرر ما بات معلوماً حتى للأطفال الصغار، فالشرعية الحالية لا تملك من أمرها شيئا، مجرد واجهة صنعتها الرياض وأبوظبي، وهي لا تختلف عن الحوثي الذي يمثل سياسات ومصالح إيران.

ولسنا بحاجة لتأكيد المؤكد منذ سنوات الحرب الأولى: لم يخض التحالف حرب مواجهة الحوثي، ولا ضداً لنفوذ إيران، بل خاض حربه ضد اليمن.

الحوثي هو استثمار "الأشقاء" المُهم، لذلك كانت هذه الحرب مزيجاً من الأهداف التي تبدو متضادة لكنها تخدم الهدف النهائي "للأشقاء".

كانت الحرب ضد الحوثي حيناً، وضد الشرعية الهزيلة والشعب اليمني معظم الوقت.

بالنسبة للتحالف، انتهت حربه الساخنة بآخر جولة ضد الشرعية في 2019. 

ما حدث بعد ذلك مجرد إدارة معارك استنزاف الأطراف اليمنية، كما حدث في مأرب وتعز، وإعادة هندسة ورسم وتثبيت خارطة النفوذ بين دولتي التحالف في المحافظات "المحررة".

وحدها الحرب الصامتة الأكثر فتكاً لا زالت مستمرة: التجويع ووضع اليد على ثروات البلاد.

مقالات

تعز... الوجه الذي كان يودّعنا!

لم يكن أيُّ مسافرٍ يطيب له السفر إلَّا من خلال مدينة تعز، أو أن تكون تعز آخرَ ما تقع عليه عيناه، يكحّلهما بها حتى تقرَّ نفسه في رحلة قد تطول أو تقصر، داخل اليمن أو خارجه.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.