مقالات
من الاجتهاد إلى الجمهورية (1)
حتى اللحظة، ما زالت شخصية شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني، المتوفي عام 1834م، واجتهاداته، وأفكاره، ورؤاه تشكِّل جسراً للتواصل والتقارب بين اتباع المذهبين اليمنيين الكبيرين، مثلما كانت في القرن التاسع عشر، والعشرين، وإن الحاجة إلى إعادة اقتفاء أثره، والانطلاق من مشروعه التجديدي الداعي إلى الاجتهاد، والإنصاف، لا شك بأنه سوف يُسهم، ويعمل على نزع الشدد، ومحاربة التطرّف، وذلك من خلال إعادة بعث تراثه الفكري المناهض للتعصّب، والتمذهب.
كانت العودة والاستعانة، من قِبل أئمة الدولة القاسمية، بالعلماء المجتهدين ضرورة حتّمتها ظروف الواقع الذي كانت تعيشه البلاد، حيث كانت القواعد الأيديولوجية للسلطة المنبثقة من المذهب الزيدي، تشكل عاملاً يزعزع الاستقرار السياسي، وخطراً على كل من يجلس على كُرسي الحكم، إذ كانت تقدّم إغراءً لكل منتمٍ للبطنين بإمكانية حصوله على السلطة متى امتلك القوّة، والغلبة، إضافة إلى رفض ومعارضة المناطق ذات الانتماء الشافعي لسلطة الأئمة، لذلك كانوا بحاجة إلى مسوِّغات شرعية تسند الاستقرار، وتعمل على قبول سلطاتهم في المناطق التي تنتمي للمذهب الشافعي، ولأجل الحفاظ على الاستقرار، قَبِل المجتهدون الاقتراب من السلطة، وهذا لا يعني شرعنة ممارسة الحُكام.
لقد كان شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني أحد أبرز علماء اليمن المجددين، والمجتهدين، وأهم علماء الإسلام قاطبة في القرن الثامن والتاسع عشر، ممن اقتربوا من السلطة وقبل تولّي أعلى المناصب، بجوار ثلاثة أئمة من بيت القاسم، هم: المنصور، وابنه المتوكل، وحفيده المهدي، ومن خلال موقعه قام بالعديد من الإصلاحات سواءٌ في الجانب الاقتصادي، من خلال رفع الضرائب الباهظة عن كاهل الرَّعايا، أو إصلاح القضاء، أو معالجة أمور السياسة، والإسهام بتحسين علاقات اليمن مع محيطها المجاور، فكانت كل أعماله تصبُّ -بالدرجة الأساسية- في خدمة المجتمع، والحفاظ على وحدته من التمزُّق، والفُرقة، بحيث قدّم نموذجاً مشرقاً لدور العالِم الشجاع، والمُصلح الكبير باقترابه من السلطة، فلم يسعَ لتبرير نزواتها وبطشها، وظلمها، بل جاهد في إصلاحها. وحول هذا الدَّور وأهميته، يقارب الدكتور المقالح العلاقة بين المثقف والسلطة، من خلال شخصية الإمام الشوكاني وعلاقته بالحاكم، فيقول: "بين فكْر المثقَّف الحقيقي وفكْر السلطة الظالمة تناقض طبيعي، ورفض متبادل من أقدَم العصور، لكن ذلك لا يمنع أن يقوم بين الفكْرين جدل استثنائي يكون موضع اعتبار ونظر، كما حدث في أواخر القرن الثامن عشر لمحمد بن علي الشوكاني، الشاعر والمؤرخ والمفكِّر والعلامة والمجتهد، الذي ارتبط اسمه بالإمام المنصور أحد طُغاة عصره، وكيف استطاع شعاع الثقافة الصادر عن شخص الأديب العالم أن يذيب قسوة السلطة الوحشية المتجسِّدة في شخص الإمام الطاغية، وأن يجعل من مشاركته في الحُكم وسيلة لاجتثاث رواسب التعصُّب والانغلاق، ومحاولة الاستفادة من القُرب من الحاكم بتوجيه خطاه إلى العدل، وقمْع الجاهليين والمتعصِّبين وأصحاب المصالح الذاتية" [د. عبدالعزيز المقالح، "المثقف والسلطة: النموذج اليمني"، ص143-144، مجلة "دراسات يمنية"، عدد 36، 1989م].
كما لم يعمل اقتراب الإمام الشوكاني من الحُكم والسياسة، على تأكيد هيمنة السلطة الإمامية، وفرض رؤيتها على المجتمع، بقدر ما ساهم في رفع الجور عن الرَّعايا، وتحقيق استقرار يصُون حياة المجتمع، وفي الوقت ذاته لم يتوقّف عن مواصلة مشروعه الإصلاحي، ودعوته إلى نبذ التقليد، وترك الجمود، بل كانت دعوته إلى الاجتهاد تسير بخطى ثابتة وراسخة، نحو تحطيم قواعد السلطة المعرفية التي كانت تسند السلطة السياسية، ولم يكنْ ذلك هدفاً في حدِّ ذاته، بل لأن أحد أهم "أهداف الدعوة إلى التجديد هو تقويض بُنى السيطرة القائمة، سواء كانت فكرية، أو اجتماعية، أو سياسية"، كما يقول الدكتور أحمد دلّال.
فممارستُه للسياسة لم تحلْ بينه وبين مواصلة تحقيق مشروعه العملاق في عملية الإصلاح الدِّيني، الذي كان من نتائجه هدم احتكار المعرفة من قِبل آل البيت، وخلخلت قواعد الإمامة الفكرية، التي كان بموجبها يتم احتكار السلطة، وحصرها في البطنين، وقد تم له ذلك في سياق مشروعه الإصلاحي.
وهذا لا يعني أن دُعاة الاجتهاد كانوا يسعون لتحقيق هدف سياسي، بل إن مشروعهم الفكْري، ودعوتهم الإصلاحية، وأعمالهم التي ساعدت على ردْم الهُوة بين اتباع المذاهب، قادت فيما بعد نحو عملية إصلاح جِذرية للنظام السياسي في البلد. وهذا ما يؤكده الدكتور أحمد دلّال في كتابه [إسلام بدون أوروبا] "بأن الدور السياسي الذي لعبه الشوكاني كان نتيجة لدوره الفكْري، وليس العكس، أي إن انخراطه في النشاط السياسي جاء نتيجة شُهرته الفكْرية، وأن سلطته الأساسية بقيت فكْرية"، وهو وإن كان من أركان الحُكم بسبب موقعه ومنصبه قاضٍ للقضاة، والوزير الأول "إلا أن ذلك لم يعنِ الولاء الأعمى، فقد كان ناقداً للكثير من المُمارسات السياسية، وهو ما اعتبره (دلّال) علامة على استمرار فكْرة تقويض احتكار السلطة، سواء المعرفية أو السياسية، ودليلاً على أن استقلال الشوكاني السياسي هو انعكاس لاستقلاله الفكري".
لكن عملية الإصلاح الدِّيني، التي قام بها الإمام الشوكاني، قادت فيما بعد لعملية إصلاح جِذرية للنظام السياسي في اليمن، وقد بدأت أولى ملامح ذلك التغيير، بعد وفاته بأربع سنوات، فقد ألمح الشماحي أن ثورة الفقيه سعيد (1254هـ)، كانت بصورة غير مباشرة متأثرة بأفكار الشوكاني، حيث كان الأخير قد أخرج الإمامة من أصول الدِّين، وجعلها من الفروع، وكان يرى "أن المقصود بالولاية العامة هو تدبير أمور الناس على العموم والخصوص، وإجراء الأمور مجاريها، ووضعها مواضعها، والعدالة ملاك الأمور، وعليها تدوير الدوائر. رابطاً شرعية السلطة بعدالتها، لأن من لا عدالة له لا يُؤمن على نفسه فضلاً على أن يُؤمن على عباد الله، ويُوثق به في تدبير دِينهم ودُنياهم. والمضمون السياسي للسياسة الشرعية (رضا الناس)" [د. أشواق غليس، "قراءة من كتاب: فكر الشوكاني وأثره المعاصر في اليمن"،
ص212، مجلة "شؤون العصر"، عدد 31، أكتوبر – ديسمبر 2008]. الأمر الذي شجَّع الفقيه سعيد للقيام بثورته وإعلان نفسه إماماً.
وكذلك أسهمت -بحسب المؤرخ عبدالله الشماحي- عند منتصف القرن التاسع عشر، في رفض أهالي مدينة صنعاء لسلطة الأئمة، أو الرضوخ لأحد من المتصارعين، حيث كانت الصراعات ملتهبة بين أربعة من طالبي السلطة، وكان كل واحد منهم يُغري القبائل التابعة له باستباحة دورها، والحصول على أموالها، الأمر الذي دفع بالسكان لإيجاد سلطة أهلية منوطة بإدارة المدينة، تم اختيار القائمين عليها من بين التُّجار المشهورين، فكان يديرها بعض ممن يُعرفون بمشايخ السوق، أمثال: الحيمي، ومعيض. ومن الملامح المهمّة لتلك المرحلة، أن السكان في مناسبة عيد الغدير صعدوا إلى جبل 'نقم'، كما كانوا يفعلون مع الأئمة آنذاك لتأكيد تمسُّكهم بالإمامة، لكن الأهالي حينها بدلاً من تأكيد الولاء للإمامة أكدوا رفضهم الولاء لأي إمام. [وللتوسع حول تلك الفترة وأحداثها يمكن العودة إلى كتاب "صفحات مجهولة من تاريخ اليمن"، تحقيق القاضي حسين السياغي]
لقد تأخّرت عملية إصلاح السلطة في اليمن قرابة مائة عام. وكان ذلك ناتجاً عن عودة الأتراك إلى اليمن، ولولا عودتهم "لامتدت مسرحية الأئمة (الأطفال) العقول تدفع نحو التخلص من عقيدة الإمامة الزيدية" [عبدالله الشماحي اليمن "الإنسان والحضارة"، ص180] فقد كانت الإمامة تسير في تحطيم ذاتها، عبر صراع الأئمة الصغار على منصب الإمام، وتلاعب القبائل بهم، ولولا ذلك لما استطاعت البقاء في الواجهة مجددا.