مقالات
من الحاجة الاقتصادية إلى استقطاب السياسة! (1-2)
شهد اليمن، خلال القرن العشرين، موجات هجرة متعاقبة؛ لأسباب مختلفة، غلب على أكثرها البُعد الاقتصادي، وأقلها كان البُعد السياسي، قبل أن تنقلب المعادلة تماماً في القرن الواحد والعشرين لصالح التأثير والاستقطاب السياسي..
خلال فترة العشرينات، وجد بعض اليمنيين، وعبر بوابة عدن البحرية، منفذا للعبور إلى عوالم جديدة؛ لأسباب اقتصادية، فبدأت أولى طلائع البحّارين الذين وصلوا إلى موانئ مرسيليا في الجنوب الفرنسي، وليفربول في شمال غرب إنجلترا، ووصلوا نيويورك، واستوعبت أعدادا كبيرة منهم شركات الحديد العملاقة ومصانع السيارات، وكانوا إحدى الرافعات الاقتصادية لتلك المصانع، وعلى رأسها مصانع "فورد" في سنوات الكساد العظيم، الذي ضرب الولايات المتحدة في أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات، غير أن إغلاق مصانع الحديد والصلب (مصانع شركة بيت لحم للحديد الأمريكية)، التي كان يعمل بها الكثير من المهاجرين اليمنيين المعتمدين على قوة جهدهم العضلي الميكانيكي، الخاضع لتقسيم العمل الشاق، دفعهم إلى البحث عن أعمال بديلة تتوافق مع تدني مستوياتهم التعليمية، مع بقائهم في الظل؛ بعيدا عن المشاركة السياسية، أو الاقتراب من التصويت؛ لأسباب غير واعية بما يدور حولهم، كما يقول الدكتور أمين نويصر في قراءته للقوى الصاعدة في نيويورك - المهاجرون اليمنيّون ومجابهة سياسات التمييز (خيوط).
يقول عادل الأحمدي وعبدالملك المثيل، في مقال مشترك عنوانه "عمال اليمن في صناعة السيارات الأمريكية.. حكاية قرن 20 مايو 2014"- العربي الحديد:
"بدأت القصة منذ عشرينات القرن الماضي، حين عانى هنري فورد (مؤسس شركة فورد الأميركية للسيارات) من إضراب واسع من قبل العمال "ذوي الأصول الأوروبية المسيّسة"، فسأل عن بلد لا تستهوي عمالَه الإضرابات، فأشير له باليمن.
أرسل "فورد" سفينة إلى ميناء عدن عادت إلى أميركا وعلى متنها ألفا عامل يمني استقر جزء منهم في ضاحية ديربورن في ديترويت بولاية متشغن، في قصة شهيرة صارت جزءاً من السيرة الذاتية لـ"هنري فورد" وللجيل الأول من يمنيي أميركا. تفانى العمال اليمنيون في عملهم في مصانع فورد، وتضاعف عدد اليمنيين العاملين بمصانع سيارات أميركية ليصبح عددهم اليوم وفق إحصائية تقديرية حصل عليها "العربي الجديد" من منظمة "يمانيو المهجر"، نحو 5 آلاف يمني.
وقد فارق جزء من الآباء القدامى الحياة، وأحيل الباقون إلى التقاعد ليستمر عمل اليمنيين من الجيلين الثاني والثالث في قطاع صناعة السيارات، إذ تجد في منازل العديد منهم "شهادات تقدير" معلقة على الجدران ممنوحة للأب والابن والحفيد".
مع ذرة الحرب العالمية الثانية (1938- 1945)، استقطب المتحاربون الكونيون (دول التحالف ودول المحور) ألوف المقاتلين من دول العالم الثالث، ومنهم اليمنيين الذين تجنّدوا في صفوف الطليان وألمانيا في دول أفريقية؛ منها أثيوبيا، وتجندوا في صفوف القوات الفرنسية والبريطانية في مستعمرة عدن وجيبوتي والصومال، وكان الدافع في ذلك اقتصادي بحت، ولعب الجهل المركب دورا اساسيا في هذا التجنيد,
وأنا أدرس قصيدة "الغريب" لمحمد أنعم غالب أثناء إعدادي لدراسة "الهجرة والمهاجرون في أدب اليمن المعاصر"، التي نقلت صورة المهاجر اليمني في تلك الفترة أودت في البداية قولاَ للدكتور علي محمد زيد من كتابه "الثقافة الجمهورية".
"تقدم {هذه القصيدة} تصويراً حياً لحياة مهاجر غريب كادح بائس، أرغمته ظروف وطنه، وخضوعه للاستبداد والظلم والفقر، على أن يترك بلاده، وأن يبحث عن أي عمل.
ولأنه لم يؤهل في وطنه على أية مهنة ولا أية حِرفة، فإنه يباشر أي عمل يتوفَّر له ليكسب عيشه، ويتشرد في الآفاق بحثاً عن أي عمل شاق".
وحينما قامت الحرب الكونية الثانية لم يجد أفضل منها كمهنة؛ لأنها مربحة، فصارت له عملاً، فهو محارب شجاع يجيد إطلاق الرصاص ورصاصه لا تخطئ الأهداف.
سجل اسمه في دفتر المجندين، وحارب إلى جانب الفاشيست من أجل الرغيف، تماماً، مثلما حارب على الجانب الآخر يمنيون مثله وللهدف ذاته:
ومرة قد كان تاجراً يجول في الطريق/ يبيع كل شيء/ العطر، والصابون، والحرير/ والكتب..../لكنه كتاجر صغير/ رأس ماله العرق/ والحرب قامت منذ شهر/ والغلاء نار/ تجارة التطواف.. لا توفر الرغيف/ الحرب قامت منذ شهر/ والمجندون يمرحون/ ويشترون المتعة الأخيرة/ الحرب مربحة../ الحرب لي عمل/ "أنا المحارب الشجاع/ أجيد إطلاق الرصاص/ رصاصتي ما أخطأت هدف".
"حاربت لا دفاعاً عن وطن/ حاربت من أجل الرغيف، بجانب الفاشيست/ وفي الليالي السود بين الدم واللهب/ رأيت لي أصحاب../ كانوا من اليمن في الجانب المضاد / حاربتهم وحاربوني/ لا دفاعاً عن مُثل/ وكان لا يهم من يعيش أو يموت/ ولا يهم قاهر أو منكسر.
كثير من المحاربين الذين نجوا من موت المعارك في أوروبا والعلمين، ولم يعودوا إلى اليمن، استقروا في فرنسا وبريطانيا، بمن فيهم أسرى قوات المحور، وفضل العديد منهم العودة إلى أعمالهم السابقة على ظهر السفن التي تتنقل بين الموانئ، ومن تقاعد منهم استحسن البقاء في مناطق ملائمة وقريبة من البحار والأنهار؛ مثل شفيلد، ومنها استقطبوا الكثير من أفراد أسرهم الذكور وأبناء مناطقهم إلى هذه المستقرات الجديدة، ليصيروا مع الوقت جزءا من نسيج المدينة الصناعية بعد أجيال ثلاثة تقريبا.
في ترجمة حديثة أنجزها ربيع ردمان لمقال "كيفن سيرل"، وهو أكاديمي بريطاني مختص بالدراسات الاجتماعية عنوانها: "من اليمن إلى يوركشاير: رحلة المهاجرين اليمنيين في ضوء الأرشيف البريطاني والتاريخ الشفوي"، منشورة في "خيوط".
يقول المؤلف: "تشكلُّ الجالية اليمنية جزءا صغيرا، ولكن مهما من سكان مدينة شفيلد، ومعظم أبناء هذه الجالية ينحدرون من عائلات عمال صُّلْب سابقين ممن هاجروا إلى بريطانيا خلال خمسينات وستينات القرن العشرين.
قدَّم اليمنيون إسهاماتٍ مهمةً في التنمية الصناعية في بريطانيا قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، لكن هؤلاء يظلون -من وجهة نظر كثيرين- "جاليةً مُغَيِّبةً"، وغالبا ما يتم تمثيلها داخل هويات جماعية أوسع نطاقا مثل البَحَّار، والمسلم، والعربي، والآسيوي، وغيرها .
قَدِمَ الجزء الأكبر من اليمنيين في شفيلد من محمية عدن، وخاصة ممن ينتمون إلى مناطق يافع والشعيب والضالع، وكذلك من شمال اليمن من مناطق رداع وجُبَن والشَّعِر والحديدة، ويمكن رؤية بعض هذه المناطق على خريطة وزارة الخارجية والكومنولث.
انطلق غالبية المهاجرين من عدن من خلال الطريق البحري القصير عبر قناة السويس. لكن الذين سافروا في فترة حرب السويس عام 1956 حين كان التمييز العنصري المعادي للعرب في ذروته، اضطروا إلى خوض رحلة عدائية وصعبة بشكلٍ خاص".