مقالات

من تاريخ التحول في اليمن!!

10/12/2021, 08:32:14
المصدر : بلقيس - خاص

وجدت في الكثير من المذكرات السياسية،  وفي الاستعادات السيرية لعديد أسماء من المنشغلين بالشأن العام في اليمن، أن سنوات الخمسينات كانت هي الأخصب في تكويناتهم السياسية والمعرفية، وكانت هي الممهّد الفعلي لعملية التحول، وقد ظهر لي ذلك أثناء تحريري لسيرة الراحل "حسين محمد السُفَّاري"، وخصوصا تلك المرحلة التي عاشها طالباً في عدن والقاهرة، حيث كانت هي الأخصب في السنين لديه، وأكثرها ثراءً في مسيرته، وكنت أظنّ أن استعاداته السلسة والصافية لتلك السنوات، وهو في الثالثة والثمانين من العمر، هي نوع من الحنين للطفولة التي عاشها في المدينة الأحب إلى قلبه (عدن)، التي تركت ذكرياتها تحفر في وعيه بكل هذا الشجن حتى أواخر أيامه، غير أن نزوعاً نفسياً وثقافياً شديد الخصوصية كان هو الباعث على مثل هكذا ارتباط بالمكان والزمان، ومثل كثيرين من أبناء جيله الذين بقوا يحنّون لسنوات الطفولة، والأماكن التي شهدت ترعرعها فيها. 

عدد غير قليل من  روّاد الحركة الوطنية اليمنية في اليمن أحدثت فيهم  سنوات هذا العقد الكثير من التأثير المباشر، وغير المباشر أيضاً، بسبب الأحداث  الكبيرة التي عاشها الداخل اليمني والمحيط الإقليمي، ومهّدت تالياً لعملية الانتقال الأهم في تاريخ اليمنيين، وأعني هنا ثورة السادس والعشرين من سبتمبر والرابع عشر من أكتوبر. 

السنوات الأولى من ذلك العقد اتصلت بارتدادات فشل حركة فبراير 1948م، وما صاحبها من تصفيات سياسية ودموية لأبرز معارضي سلطة الإمام يحيى، وكانت هذه المجزرة -حسب اعتقادي- هي النقطة التي تفصل بين مرحلتي وعي للمعارضة السياسية، فقد أزاحت قليلاً المثقّف التقليدي، بعمامته وثقافته الدينية الذي قضى إما تحت سيف الجلاد، أو انطفاً في سجونه المعتمة ليخرج منها بعد سنوات أكثر مهادنة للنظام، ومبرراً لسياساته، لصالح المثقّف السياسي العصراني المتصل بالعصر والمرتبط بفضاءات السياسة وأطرها وتكويناتها الحديثة، وقد كانت مدينة عدن وبلدان المهجر شريان اتصالهم الحيوي.

كان لثورة يوليو 1952م الأثر الأعظم في هذه اللحظة، لأنها كانت "الثورة الوحيدة بحجم التغيّرات الجذرية، التي أحدثتها في بنية المجتمع الطبقية، وطبيعة التوجهات الاستراتيجية التي تبنتها وغيّرت بها معادلات القوة والنفوذ في الإقليم"، كما يقول عبدالله السناوي في كتابه "أخيل جريحاً. وكان ارتباط اليمنيين الوجداني بهذه الثورة عظيماً، وقائدها الفعلي جمال عبد الناصر الأيقونة المقدّسة عند أكثرهم. 

في عام يوليو الأول، أعاد الأحرار اليمنيون تنظيم صفوفهم من جديد في مدينة عدن، بتشكيل حاضنة جديدة لنشاطهم السياسي تحت لافتات اجتماعية وخيريّة، بعد أن ألغت السلطات الاستعمارية في المدينة ترخيص "حزب الأحرار"، أو منعت تجديده، بضغوط من حكومة الإمام أحمد، فصار الشكل الجديد اسمه "نادي الاتحاد اليمني"، وصار في هيئته الإدارية "المنتخبة" شخصيات شابة تنتمي لروح العصر التي تمثلها المدينة وحداثتها وتعليمها الجديد. وبرغم الخطوة المتقدّمة، التي خطاها الاتحاد في تبنيه رؤى معاصرة للمعارضة السياسية، إلا أنه بقي -من وجهة النظر السياسية الشابة- اتجاهاً رجعياً ومحافظاً، لا يختلف كثيراً عن الحاضنة الأم (حزب الأحرار).

مثَّل ظهور "حزب رابطة أبناء الجنوب"، في أبريل من العام 1951م، خطوة متقدّمة سياسياً على خطاب "الجمعية العدنية" التي بدت، من خلال خطابها وممارساتها، أكثر انعزالية وعنصرية، حين حصرت مواطني المدينة في فئات محددة، وتحديدا من "المولّدين" فيها، دون اليمنيين من مواطني المحميات والمملكة المتوكلية، فجاء "حزب الرابطة" ليكون الحاضنة للقوى الجديدة التي تشكّلت في مناطق مختلفة من الجنوب اليمني، التي استثنتها الجمعية العدنية بحكم المولد. 

هذا الحزب سيصير أكثر شاناً في الحياة السياسية، خلال الخمسينات، حينما عبَّر عن منزع هُوياتي يقترب من الخطاب القومي - رغم ابتعاده عن المنزع الوطني اليمني- وتأثيره المباشر في الشارع السياسي المؤيّد لعبد الناصر. وكان لقرب السلطان علي عبد الكريم فضل، الذي تولّى مقاليد الحكم في السلطنة "العبدلية"، في العام 1952م، من مؤسس ورئيس الحزب، محمد علي الجفري، أثره الكبير في صيت الحزب، بسبب المواقف القومية للسلطان الشاب، الذي اعتبرته السلطات الاستعمارية مارقاً، فعملت على عزله في العام 1958م. 

غير أن الحزب سيفقد الكثير من بريقه وديموميته، حين صار انعزالياً، في حاضنته اليمنية، لتأتي الأحزاب القومية بدعواتها الوحدوية لتجرده من الكثير من أدواته، وهو الذي كان قبل سنوات قليلة الجبهة الأوسع التي ضمت كل الاتجاهات (الدينية والقومية والماركسية)، أو كما قال الراحل هشام علي بن علي: "مظلة لكل التيارات الموجودة في الساحة، فكان فيها المتصوف والإخواني والقومي والماركسي، حيث غدت البيت الذي يضم الجميع" [كتاب "المثقفون اليمنيون والنهضة"، ص485].  

كانت أحداث العام 1955م في تعز هي التعبير الأوضح عن تناقضات بيت الحكم الإمامي (التنازع الدموي بين الإمام أحمد وشقيقه سيف الإسلام عبدالله)، بعد أن كانت حركة 1948م تعبيراً عن تناقض تحالف الحكم في المملكة المتوكلية (بيت حميد الدين وبيت الوزير)، ودلّت الحالتان أن حراكاً جديداً في المجتمع بدأ بالتبلور والنضوج في اتجاه عملية التغيير من خارج بنية  الحكم، وساعد في ذلك جملة التغيّرات الكبيرة في المنطقة.

في العام 1956م، كانت الحركة الطلابية اليمنية في مصر (من المبتعثين الحكوميين ومبتعثي الأندية والاتحادات من عموم اليمن الطبيعي) قد نضجت تماماً، وصار لها صوتها السياسي القوي؛ ولبيانها البليغ الذي أصدرته بعد مؤتمرها الأول في يوليو من العام ذاته أثره الواضح والمعبَّر عن تشكلات الصوت السياسي الجديد، الخارج من ثنايا الخطاب القومي العربي، فقد كان الطلاب خليطاً من البعثيين والقوميين واليساريين (الماركسيين)، الذين استقطبهم حزب البعث العربي الاشتراكي، وحركة القوميين العرب، و"حدتو" (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) في مصر. 

يقول الدكتور أحمد القصير عن ذلك في كتابه [إصلاحيون وماركسيون روّاد تنوير اليمن]:

"كانت التنظيمات السياسية  اليمنية تعمل، في ذلك الوقت، في إطار واقع يقوم على تجزئة البلاد وتقطيعها ما بين الاستعمار والإمارات في الجنوب والإمامة في الشمال، غير أن الحركة الطلابية اليمنية تجاوزت، منذ نشأتها، هذا الواقع على مستوى كلٍ من الفكر والممارسة؛ {فقد} أسهمت الحركة الطلابية اليمنية في مصر بدور يتّسم بالريادة فيما يتعلق بقضية الوحدة اليمنية، فقد طرحت تلك الحركة مفهوم الوطن الواحد ووحدة التراب اليمني، وكانت أول حركة سياسية يمنية تضم جميع أبناء اليمن الطبيعي" - ص 176. 

من بين هؤلاء الطلاب سيتخرج العشرات منهم ليصيروا رافعة التحديث في اليمن الجديد، والعديد منهم سيؤسسون تكوينات الأحزاب القومية في اليمن (شماله وجنوبه)، التي ستصير مأوًى للمثقفين الشبان الذين راهنوا على الحداثة السياسية في مجتمع يسعى للخروج من ظلمات القرون.

في أواخر عقد الخمسينات ستتشكّل -بشكل رسمي- فروع الأحزاب القومية في اليمن (البعث والقوميون العرب)، بعد أن بقى حضور الحزبيين فردياً  أو على هيئات مجاميع صغيرة دون اُطر تنظيمية؛ وهذا الفعل سيكون تالياً واحدا من  علامات التأسيس المضيئة للعمل السياسي في جغرافية لم تزل معظم أجزائها نائية ومعزولة عن محيطها العربي.

ولن يكتمل الحديث عن سنوات الخمسينات في اليمن دون الإشارة إلى ازدهار الصحافة وتنوّعها في مدينة عدن ومحيطها، وارتباط العديد منها بالاتجاهات السياسية، أو بأفراد فاعلين في الحياة العامة في تلك الفترة، وقد عبّرت عن الحراك المجتمعي وقتها بكل صخبه، ومن تلك الصحف:

 -"صحيفة الفضول"، أصدرها عبد الله عبد الوهاب نعمان بعد فشل ثورة 1948.

-"صحيفة الذكرى" أصدرها الشيخ علي محمد باحميش 48.

 -"صحيفة النهضة" لصاحبها عبدالرحمن جرجرة نوفمبر 49. -"مجلة المستقبل" لعائض باسنيد والمحرر الرئيس عبد الله باذيب 49.

-"صحيفة الجنوب العربي" أصدرها حزب الرابطة51. -"صحيفة الفكر" لصاحبها علي ناجي محسن - عضو المجلس الأعلى للجبهة الوطنية المتحدة- 56.

-"صحيفة البعث" أصدرها محمد سالم علي في العام 1956.

-"صحيفة العامل" صدرت عن المؤتمر العمالي في العام 1957م ورأس تحريرها النقابي عبده خليل سليمان. -"صحيفة النور" لصاحبها محمد سالم باسندوة 58.

-"صحيفة الأيام" أصدرها محمد علي باشراحيل 58. -"صحيفة الكفاح" أصدرها في 1959م الشخصية السياسية حسن علي بيومي.

-"صحيفة الفجر" أصدرها محمد أحمد النعمان.

-"صحيفة الطليعة" أصدرها عبدالله باذيب في مدينة تعز في العام 1959، وغيرها.

مقالات

لا ضوء في آخر النفق!

عندما بدأت الحرب على اليمن في 26 مارس، بدون أي مقدّمات أو إرهاصات أو مؤشرات تدل على حرب وشيكة، حيث تزامنت هذه الحرب مع هروب عبد ربه منصور إلى سلطنة عُمان، وكان قرار الحرب سعودياً، ثم إماراتياً خالصاً، تحت مسمى "إعادة الشرعية"، التي في الأصل قامت السعودية بفتح كل الطرق لدخول الحوثيين إلى صنعاء وطرد الشرعية منها، وأن هذه الحرب لم تكن مرتجلة بل مخطط لها لإعادة اليمن إلى ما نحن عليه اليوم، من شتات وتمزّق.

مقالات

هنا بدأت رحلتي

أضواء خافتة تقسم الشارع بالتساوي بين الذاهبين والقادمين، قمر في السماء يوزع ضوءه بين سطوح المنازل وقناة الماء في ميدلبورغ، وأنا أجلس خلف ضوء دراجتي الهوائية، وخلف أمنيتي أن يستمر الطريق بلا نهاية.

مقالات

حديث لن يتوقف!

يومَ أعلن علي سالم البيض بيان الانفصال، في خضم حرب صيف 1994م، تنصَّلت جُل - إنْ لم يكن كل - قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي عن مسؤوليتها تجاه هذا الإعلان المقيت، الذي لم تقوَ حُجَّته أمام كل ذي عقل بأنه كان اضطرارياً، كما حاول البعض الزعم به يومها، إذْ لم يجرؤ أحد على القول إنه يتفق مع مشروع الانفصال.

مقالات

أمير الشعر الحميني عبر كل العصور

"لا توجد كلمات غنائية أصيلة بدون ذرة من الجنون الداخلي". يطِلُ عبدالهادي السودي من بين هذه الكلمات، لكأنها كتبت فيه، وعن سيرته، وتفردهُ شاعراً، وعاشقاً، وصوفياً، وعلامة فارقة لِعصرهِ، وشاغلاً للأجيال من بعده.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.