مقالات

من حواف التذكر البعيد

10/09/2021, 18:34:27
المصدر : بلقيس - خاص

خمسة  على الأقل من أقراني الصغار، الذين درسنا معاً في جرف الفقيه فارع بقرية "الزقزوق"، غادروا إلى السعودية مع آبائهم أو أقرباء لهم (أخوال وأعمام)، بدون تعقيدات تقريباً .. فقط كنا نتفاجأ أن فلاناً سافر إلى السعودية مع والده الذي عاد إلى القرية من أشهر، وأن فلاناً سافر مع خاله الذي ألحقه بجوازه باعتباره والده، وهكذا. وقد احتاج العديد منهم لاحقاً إلى أحكام شرعية لاستبدال وثائقهم بالأسماء الصحيحة، بعد أن طغى الاسم المنتحل على الشخصية الأصلية لحامل الوثائق.

كانت الهجرة المؤقتة إلى السعودية حلماً كبيراً للكثير من الشبان الريفيين الذين تحصلوا على تعليم بدائي ومتوسط، ولم يستطيعوا إكمال تعليمهم  لأسباب مختلفة، لأنها -حسب تقديراتهم- ستساعدهم على تغيير أوضاعهم الاقتصادية، بعد أن شهدت تلك البلاد حالة تحوّل وطفرة مالية كبيرة أعقبت حرب أكتوبر 1973، حينما ارتفعت أسعار النفط بشكل جنوني، فاستدعت هذه التحوّلات وجود كثافة للعمالة غير الماهرة في أعمال التشييد والبنية التحتية التي شهدتها البلاد، وكان اليمنيون بدرجة رئيسة هم الملح الجديد لتلك الأرض، يعمِّرونها بسواعدهم السمراء، ويكتسبون منها خبرات جديدة.

عمل المهاجرون الريفيون مع غيرهم من المغتربين في أعمال شاقة كالبناء، وفي مِهن مساعدة تتصل بأعمال تمديدات شركة أرامكو (لحام أنابيب عملاقة)، مستفيدين من خِبرات الجيل الأول من اللّحامين الذين غادروا القرية مطلع الستينات، واستقرّ بعضهم بشكل نهائي، فعملوا على تأهيل أقربائهم وأبناء معارفهم في هذا المجال، وعملوا أيضاً في المطاعم والورش، ومحلات الملابس، ومحلات خياطة الأثواب. 

قِلة منهم التحقوا بمدارس ليلية، وطوّروا من مهاراتهم، واجتازوا الثانوية العامة في المدارس السعودية، وقِلة قليلة التحقوا بجامعات مصرية بنظام "الانتساب". 

 وحينما كانوا يعودون إلى القرية، بعد سنة من الاغتراب مثلاً، يحضرون بشخصيات مختلفة غير تلك التي غادرتنا. صاروا يلبسون الأثواب البيضاء (القمصان)، والغتر الملوَّنة، والساعات المذهَّبة، والصنادل ذات الأجنحة البيضاء العريضة (صنادل بدوية في السبعينات).. عادوا محمّلين بطرابيل الهدايا (ملابس رخيصة، ومسجلات يابانية، ودلال قهوة، وهيل فاخر، وشاي خشن بُعلب معدنية، وشاي ليبتون، وسكر مكعبات، وشباشب بلاستيكية ثخينة، وأمصار نسائية مشجَّرة، ودهانات لتلميع الشَّعر، وكل هذه المجلوبات كانوا يقومون بتعبئتها بعناية بأقمشة ثخينة، من تلك التي تستخدم في صناعة الخيام)، وكانت تُعرف بطرابيل المغتربين؛ والأهم من ذلك يعودون بألسِنة مختلفة، تتقطّر بكلمات حجازية أو نجديّة، لا عهد للقرية بها، مثل: يا واد سكِّر الباب، يا خوي بغيت مويه، يا مره بغيت أتروش، يلعن جداوينك، يا واد أستحي على وجهك، وسوي إللي قلتلك عليه، ولا والله لأقوملك، أخلي يومك حريقه، وهكذا.

 يعودون بقليل من المدَّخرات، يبددونها  في وقت قصير في شراء القات الفاخر والذبائح. بعضهم يتزوجون أو يبنون حجرات عشوائية في ملحقات مساكن العائلة؛ يشكِّلون -في فترة إقامتهم في القرى- مجموعة مغلقة، يتمشون، ويتجولون معاً باستعراض كبير، يقيِّلون ويسْمرون مع بعض، وجلساتهم التي يحضرها ضيوفهم كانت عبارة عن حديث واحد ومتصل، قوامه استرجاع حكايات أيام الغربة، ويتلذذون بسماع أغاني  المطرب المغترب عبده إبراهيم الصبري المشهورة آنذاك، مثل:  "مسافرين أرض اليمن"، و"مرسوم في قلبي مرصود في الدفتر"، و"أن بغيت البر أحسن لك"، أو أغاني أبوبكر سالم: "يا مسافر على الطائف طريق الهدى"، أو "ما سلي قلبي ولا راض إلا معك في الرياض". وحين يرجعون إلى مدن الاغتراب من جديد يبقون لأشهر يبحثون عن أعمال تتناسب وخبراتهم البسيطة.. يتكدّسون في عُزب الأنفار، يستبدلون ثمرة الجيرو الأفريقية (القورو) بالقات الذي اعتادوا عليه في القري، والجُراك الخشن بالتنباك الحمومي. 

كانوا ينفقون وقتهم الطويل والملول بمشاهدة "الأفلام الممنوعة"، بواسطة أجهزة الفيديو التي كانت أحدث وسائل الترفيه آنذاك، في ظل غياب السينما والوعي بها، ويسمعون أغنية "ارجع لحولك كم دعاك تسقي"، التي كانت أشبه بتميمة، التي تهيّجها أيضاً مراسيل تأتيهم من القرى البعيدة عبر أشرطة الكاسيت.

كانت قبل حقبة السبعينات تلك وظيفة لحاملي الرسائل والأمانات تُعرف بـ"الطّبل"، واشتهرت هذه المهنة أيام عدن، حين كان بعض الأشخاص المشهود لهم بالأمانة والهمّة يقومون بتوصيل حاجات ومرسولات المُقيمين في عدن إلى أسرهم في القرى، ويعودون من القُرى حاملين الهدايا البسيطة من "سمون" و"كعك"، وكذا الرسائل. 

وكانت وسائل نقلهم لهذه الحاجات الجمال والحمير من آخر نقاط وصول البوابير إلى المُصلى في الأحكوم، أو المجزاع في المضاربة، وكانوا يسمونه بطبل المعادنة، وكانت الأشياء تصل مغلَّفة بكراتين وشولات صغيرة مخطّطة، وإن هذه المهنة صارت مجسَّدة في حنين القرويات ولهفتهن، فغنين كثيراً على "الطبل"، ومنها ما وُظف في أغنية لأيوب "بكرت بكور قبل الطيور أسائل.. أين الطبل لو لي معه رسائل".

أما الطَّبَل في مرحلة الاغتراب السعودي فقد صار صاحب سيارة دفع رباعي، ماركة تويوتا لاند كروزر (شاص)، وعُملة متقطع، إذ يعود بسيارة حديثة جداً محمّلة بعدد من الطرابيل الكبيرة والمتوسطة، بداخلها حاجات المغتربين من هدايا مغايرة غير تلك التي اعتادتها القرى من اغتراب عدن القريبة، وكانت معظم هذه السيارات تبقى ولا ترجع، إذ يفضّلون بيعها في الداخل، وما كان يثير دهشتنا من تلك السيارات أن أقفاصها الأمامية تتزيّن بأشياء غريبة من الدانتيل والمطرزات (الصور الغريبة)، وروائحها معطّرة بفعل مواد عِطرية تنبعث من ورق سميك يُعلّق كزينة في مِرآة السائق الأمامية.

حينما انتقلت إلى تعز بعد ذلك، وبقيت إلى جانب والدي الذي يعمل في دكان الحاج سعيد عمرو غالب في المركزي (مستودع الشيباني)، تفتحت مداركي أكثر على حالات الاغتراب في السعودية، حيث كان صاحب المحل أشبه بوكيل مغتربين، فكانت الرسائل والتحويلات تتم عن طريقه، فكنا نكلَّف، أنا وقرينان لي نعمل في الدّكان، بإرسال البرقيات المستعجلة عن طريق مكتب شركة البرق في رأس عقبة "شارع 26 سبتمبر"، بالقرب من المستشفى السويدي (النقطة الرابعة)، أو بإيصال رسائل لبعض المغتربين بالبريد العادي والمستعجل عن طريق مكتب البريد بالقرب من المجمّع الحكومي بالمنطقة ذاتها، تحوي كثيرا من تفاصيل المعاملات المالية، وأخذ الإذن بإرسال طلبات إلى أسرهم في القرى؛ أو استلام رسائل واردة عبر المكتب وهكذا.

ومن كان يعود من المغتربين، الذين يتعاملون مع الحاج سعيد، كان يمر بالضرورة على الدكان، ويسكن لأيام أيضاً معنا في البيوت أو الدكاكين، وعلى وجه الخصوص في محطة المغادرة، وأحياناً كنا نودّعهم إلى المطار بسيارة سائق معروف يستأجرونها إلى المطار، وهي من تعيدنا إلى الدكان، بعد أن تكون الدهشة قد بلغت منا مبلغاً عظيماً من رؤية الطائرة ورؤية المدينة من خارج مربّع السوق.      

مع مطلع الثمانينات بدأت هذه الموجة تنكسر بعد أن خفَّت الأعمال، أو بوجود عمالة رخيصة آسيوية، وبعد أن بدأت الجهات الأمنية السعودية تضايق المغتربين، بعد سنوات من حظيهم بميزات كبيرة، مثل: حرية التنقل بلا كفيل، واختيار المهن التي يرغبون فيها، على عكس اليمنيين الذين كانوا يحملون جوازات جمهورية اليمن الديمقراطية، الذين يتعرّضون لمضايقات شديدة.

أما النكبة الكبرى ستكون لجميع المغتربين في صيف 1990، بعد اجتياح القوات العراقية دولة الكويت، وما رافقها من إجراءات مشددة اتخذتها الداخلية السعودية، ومنها: فرض نظام الكفالة على المقيمين بواسطة سعوديين ومتجنسين، الذي أعاد إنتاج صورة العبودية العصرية، التي وضعت مصائر ألوف العمال بين يدي متحكِّمين جشعين يقاسمونهم لقمة العيش.

 كنا نشاهدهم عائدين مع عفشهم بسيارات عتيقة، وكثير منهم عادوا مع أطفالهم الذين لم تعد تربطهم صلة بموطن الأب والأم، وإنّ اندماجهم بالواقع الجديد سيصير مكلفاً للأسر التي بدأت بإنفاق مدَّخراتها على الاستقرار  والتكيّف مع الوضع الجديد. ويبقى العمل السردي الذي أنجزه أحمد زين (تصحيح وضع) الأكثر نضجاً في مقاربة هذه الحالة: "لاتزال الحافلات والشاحنات الكبيرة، تمر في خيالي، تتمايل متباطئة. عفوش وبالات ملابس، دراجات هوائية، إطارات سيارات، أفرشة، حقائب، أدوات كهربائية، يشف عنها الزجاج أو نصف نافذة مفتوحة. عربات كثيرة تتلوّى عبر طرق طويلة، سألمح داخلها وجوهاً لنساء تسرح بعيداً، مدسوسة في أغطية خفيفة سوداء، أو تتكئ سواعد مثنية قرب النوافذ؛ تفكر ربّما بالحجرات الخالية، بالحوائط المستلقية بينها، بالطلاءات التي لطختها الذّكريات يوماً بعد يوم. تلك البيوت التي لم يستطيعوا حملها كحقائب، ويعودون بها إلى بلادهم، تركوها خلفهم  في بلاد الغربة، التي لم يتصورا يوماً الرحيل عنها، هكذا ببساطة، حارس لا ينام على ظلالهم التي تنشب في لحم المكان".

 

مقالات

لا ضوء في آخر النفق!

عندما بدأت الحرب على اليمن في 26 مارس، بدون أي مقدّمات أو إرهاصات أو مؤشرات تدل على حرب وشيكة، حيث تزامنت هذه الحرب مع هروب عبد ربه منصور إلى سلطنة عُمان، وكان قرار الحرب سعودياً، ثم إماراتياً خالصاً، تحت مسمى "إعادة الشرعية"، التي في الأصل قامت السعودية بفتح كل الطرق لدخول الحوثيين إلى صنعاء وطرد الشرعية منها، وأن هذه الحرب لم تكن مرتجلة بل مخطط لها لإعادة اليمن إلى ما نحن عليه اليوم، من شتات وتمزّق.

مقالات

هنا بدأت رحلتي

أضواء خافتة تقسم الشارع بالتساوي بين الذاهبين والقادمين، قمر في السماء يوزع ضوءه بين سطوح المنازل وقناة الماء في ميدلبورغ، وأنا أجلس خلف ضوء دراجتي الهوائية، وخلف أمنيتي أن يستمر الطريق بلا نهاية.

مقالات

حديث لن يتوقف!

يومَ أعلن علي سالم البيض بيان الانفصال، في خضم حرب صيف 1994م، تنصَّلت جُل - إنْ لم يكن كل - قيادات وكوادر الحزب الاشتراكي عن مسؤوليتها تجاه هذا الإعلان المقيت، الذي لم تقوَ حُجَّته أمام كل ذي عقل بأنه كان اضطرارياً، كما حاول البعض الزعم به يومها، إذْ لم يجرؤ أحد على القول إنه يتفق مع مشروع الانفصال.

مقالات

أمير الشعر الحميني عبر كل العصور

"لا توجد كلمات غنائية أصيلة بدون ذرة من الجنون الداخلي". يطِلُ عبدالهادي السودي من بين هذه الكلمات، لكأنها كتبت فيه، وعن سيرته، وتفردهُ شاعراً، وعاشقاً، وصوفياً، وعلامة فارقة لِعصرهِ، وشاغلاً للأجيال من بعده.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.