مقالات
"من هنا مرّ الغناءُ دافئاً - شعراء ومطربون يمنيون"
ظهرت اليوم النسخة الأولى من كتابي الثامن المعنون "من هنا مرّ الغناءُ دافئاً - شعراء ومطربون يمنيون"، بمناسبة يوم الأغنية اليمنية في الأول من يوليو، والكتاب كما جاء في مقدمته:
"هو مجموعة من المقالات، التي اشتغلت عليها، خلال السنوات الست الماضية، وحكمت في الأصل بحالة تذوق واستماع، ومتابعات قرائية في سير الشعراء والفنانين، وحين وجدت أنها تؤلف كتاباً مستقلاً بحاله، لم أتوانَ في جمعها هنا، وتحت عنوان 'من هنا مر الغناء دافئاً - شعراء ومطربون يمنيون'، وإصداره بمناسبة يوم الأغنية اليمنية (الأول من يوليو 2023)، بعد أن اقترح لي ذلك أكثر من صديق".
الكتاب بكل تأكيد به من النواقص والاختلالات ما يجعل تلافيها لاحقاً - في طبعة ثانية مدققة ومراجعة - أمراً محتماً، إلى جانب استيفاء بعض النواقص لجهة شعراء ومطربين وملحنين لم تستوعبهم هذه الطبعة، وببالي أن أكتب عنهم تباعاً، في جزء ثانٍ أخطط له، إن لم يصيروا ضمن محتوى الطبعة الاستدراكية المصححة.
اليمن متنوع وثري في فنونه، تماماً مثل مناخه وتضاريسه، ولهذا يصعب على أي مشتغل في قضايا الثقافة والفنون أن يحيط بكل قضاياها، وأسماء الفاعلين والمؤثرين الحقيقيين فيها، ويبقى شرف المحاولة هو القائد والمرشد فيما نكتب ونقول.
الكتاب مقسَّم إلى خمسة أجزاء:
الأول عن "شعراء يكتبون من أجل بهجتنا"، ومنهم: الراحل عبد الله سلام ناجي شاعر التمرد والسلى الغزير، الذي تضعه القراءات المتعددة في مدوّنة الشعر العامي المعاصر والحديث، خلال القرن العشرين في اليمن، في مصاف الريادة لهذا اللون الشعري، فهو -حسب الدكتور المقالح- "واحد من أبرز شعراء القصيدة الجديدة في اليمن، ومن مؤسّسي الحركة الحديثة في شعر العامية. ظهرت بواكيره الشعرية واليمن على عتبة الثورة تتحسس طريقها نحو ما أنجزه العالم في القرن العشرين، فكانت إرهاصاً حقيقياً بالتحولات الجذرية في الحياة السياسية والاجتماعية". وهو أيضاً "رائد للشعر العامي الحديث، ابتداء من ملحمته الشعرية الشهيرة (نشوان والراعية)، وانتهاء بقصائد ديوان "سلام للفهم" {مخطوط}.
ففي "نشوان والراعية"، قام بتحديد ملامح أول مدرسة للشعر العامي الحديث، وأعلن عن اكتمال بنائها؛ معتمداً على فهمه العميق بأن القصيدة العامية الحديثة برهنت على قدرتها الفائقة في احتضان المضامين الإنسانية بنجاح لا يقلّ عن القصيدة الفصيحة، وهذا كان لإثبات استقلال شخصية القصيدة كتجربة مستقلة، مما ينفي تطفل الشكل في جانبه اللغوي"، كما يقول الدكتور سلطان الصريمي.
الشاعر مطهر الإرياني، الشاعر الذي راكم على تغريبة اليمني وحكمة الفلاح وإرثه، وغير النصوص التي كتبها عن الأرض، والفلاح، ومواسم الزراعة هناك عدة نصوص وطنية، وأناشيد ثورية كتبها؛ تغنَّى بها فنانون مختلفون، واستمرت أجيال متتابعة ترددها؛ مثل أنشودة "فجر أيلول"، التي اشتهرت بصوت الفنان الراحل عمر غلاب، باسم "يا بلادي نحن أقسمنا اليمينا".. هذه الأنشودة كبرت مع جيلنا يوما بيوم، وبقينا نستمع إليها حتى وقت قريب.
أحمد الجابري الشاعر الذي صَهَرَ اليمن بأصوات المطربين، ولم أجد في تتبعاتي الاستماعية وقراءاتي المتواضعة شاعرا غنائيا في اليمن كتب بمعظم اللهجات اليمنية بميزة وثقافة ووعي الشاعر أحمد غالب الجابري، فهو الوحيد الذي كسَرَ حلقات ثنائية الشاعر والفنان، التي ارتبطت -في تاريخ الأغنية اليمنية- بالتقاربات الوجدانية والثقافية والجغرافية بين كاتب الأغنية والفنان.
غنَّى له العديد من الفنانين اليمنيين شمالاً وجنوباً، ابتداء من أواخر خمسينات القرن الماضي؛ منذ كان طالباً في جامعة القاهرة، وهي الفترة التكوينية ذاتها لشعراء الأغنية المعروفين (سعيد الشيباني، وعبدالله سلام ناجي، وعبده عثمان محمد)، حينما كانوا، هم أيضاً، طلاباً في الجامعات المصرية آنذاك.
مغامرات معظم شعراء الأغنية في اليمن عموماً لم تتجاوز الحواضن الثقافية بخصوصيتها اللهجوية، التي ينتمون إليها؛ إذ يندر أن تجد شاعرا من كُتاب الأغنية كتب بخصوصيات لهجوية غير تلك التي تطبّع وتربّى عليها في بيئته المحلية. وحده الشاعر الجابري حلَّق بعيداً في فضاءات الجغرافيا اليمنية، وكتب باللهجات العدنية، واللحجية، والبدوية، والحضرمية، والصنعانية، والتعزية بخصوصيتها الحجرية.
الجزء الثاني من الكتاب خُصص لمطربين أوقدوا جذوة الشغف ومضوا، ومنهم شيخ المطربين اليمنيين علي أبوبكر باشراحيل، الذي ملأ الدنيا، وأطرب الناس بالغناء الشعبي اليمني لسنوات طويلة، وتتلمذ على فنه المطربون الصاعدون في ذلك الوقت: إبراهيم محمد الماس، وأحمد عبيد قعطبي، وعلي عوض الجراش، وحامد عوض القاضي، وغيرهم، وبقي حتى سنوات قليلة من وفاته يحضر الأعراس ويغني فيها، ويستقبل أصدقاءه في مسكنه ليطربهم ويشجيهم، رغم ما كان يعانيه في شيخوخته من أمراض جمَّة وفتاكة، لكنها لم تمنعه من مزاولة نشاطه حتى أمتار حياته الأخيرة.
محمد مرشد ناجي الفنان والمثقف المختلف، الذي غنى لأكثر الشعراء اليمنيين، وبمعظم الألوان واللهجات، وهو أحد أكثر الفنانين اليمنين تنظيرا وكتابة الذي بدأ وعيه بالتشكّل والالتزام باكرا، فصار ينظر بشكل أشمل إلى التنوّع الموسيقي في اليمن الكبير، متتبعاً مدارسه ومذاهبه وألوانه، وانتقل بمغامراته التلحينية بعد قصيدة هي وقفة إلى اللون الصنعاني، ومنها تلحينه التجديدي لقصيدة القاضي عبدالرحمن بن يحيى الآنسي المشهورة: "عن ساكني صنعاء حديثك هات وفوج النسيم/ وخفف المسعى وقف كي يفهم القلب الكليم/ هل عهدنا يُرعى وما يرعى العهود إلاَّ الكريم"، قبل أن يخوض في ألوان لحج وحضرموت وتهامة وتعز.
وسالم بامدهف صوت اللون الغنائيّ العدنيّ، الذي لا يذكر هذا اللون في تأسيساته الباكرة إلّا ويذكر معه الفنّان الذي كان أحد أبرز مؤسّسي "الندوة الموسيقية العدنية" في نهاية الأربعينات، قبل أن يتركها ويلتحق بـ"الرابطة الموسيقية العدنية"، بعد عام واحد فقط برفقة الأستاذ محمد عبده غانم، الذي كتب له معظم أغانيه، وهو في طور التشكُّل الأول، ومنها أغنيته الأولى "يا زين المحيَّا"، التي قام بتلحينها أيضاً مطلع الخمسينات.
عبد الباسط عبسي كتجربة غنائية رائدة أضافت للون التعزي في الغناء الشعبي، وبخصوصية "الحُجرية"، الشيء الكثير، لتصير في سياق التوصيف الدرسي، وليس التعيين المناطقي، إضافة إلى التنوع الفلكلوري الذي تزخر به اليمن، وهو، كفنان مجتهد ومثقف، أكثر قربا في مقاربة المشكلة الاجتماعية؛ مثل الهجرة والفقر وغلاء المهور، والأكثر تشخيصا لحال الفلاح والراعية بوصفيهما مرموزا لثنائية الأرض والإنسان، وما يرتبط بحالهما من مواسم الزراعة والمطر.
تبقى الفنانة أمل كعدل واحدة من أهم أصوات الغناء النسوي في تاريخ اليمن.. صمودها القوي لأكثر من خمسة عقود يجعل منها مكافحة كبرى، عملت على إيصال رسالتها العظيمة في أقسى الظروف في الجنوب اليمني وشماله.
تقول الفنانة أمل إنها من أسرة ذات جذور فلاحية فقيرة وقاسية، وكانت لها جدة مكافحة تنفق على أربع أسر، وكانت هذه الجدة منذ المساء تقوم بعجن المقصص الحالي (فطائر معجونة بالماء من الدقيق والبيض والسكر وتنضج بالزيت، ويسمى أيضاً بالخمير)، ثم تصحو في الثانية بعد منتصف الليل لتحضيره، ثم تُنهِض حفيدتها أمل، التي لم يكن يتجاوز عمرها الخامسة، وتحميلها بزنبيل المقصقص لإيصاله إلى "مقهى القميري" بالقرب من مكتب مأمور الشيخ عثمان (الشوكي)؛ قبل خروج المصلين من المساجد، وتجلس جوار بائعي الخمير لبيع محصول الجدة حتى السادسة قبل أن تعود إلى البيت، وبقيت تقوم بهذه المهمة حتى دخولها المدرسة وهي في السابعة من العمر.
الجزء الثالث عنوانه: المطرب والشاعر (ثنائيون سقوا الحديقة فأزهرت الأغاني)، تناولت فيه "الفضول" و"أيوب" من خصوصية الجغرافيا واللغة إلى الاحتكار المحبب، و"علي صبرة" و"علي الآنسي"، وتجديد أغنية صنعاء، و"العزاني" و"بو مهدي".. ثنائية اللحظة الصاخبة في عدن خلال فترة السبعينات.
الجزء الرابع حمل عنوان: تقاسيم في المدوَّنة (أسئلة الغناء وأشتاته)؛ فيه موضوعات متعددة، ينطلق الأول فيها من سؤال: على ماذا تأسس اللون الغنائي التعزي بخصوصيته “الحُجرية”؟، والثاني عن مطربين شعراء، وشعراء ملحنين في مدوّنة الغناء اليمني المعاصر؛ أمثال "المحضار، ولطفي، وأبوبكر سالم، وعبد الله هادي سبيت، ومحمد سعد، وعلي السمة" وغيرهم، والثالث عن اليمن المغنَّاة في شريحة على باص، والرابع يخوض في المجابهات الباكرة لتعنيف المجتمع لغناء النساء، وبه سرد عن قصص ثمانٍ من المطربات اللواتي جابهن المجتمع وقسوته. والخامس عن فناني الشارع "رشيد حريبي" و"عبدالله البحري"، وغيرهما من الموضوعات.
الجزء الخامس والأخير من الكتاب خُصص كشهادة، وعرض لتجربة منصة خيوط، مع زاوية "شدو"، حمل عنوان "شدو خيوط"، أو "اليمن المزروعة بالأغاني"، وجاء في مقدمة الشهادة بقي هاجس استحداث زاوية خاصة بالأغاني في منصة "خيوط"، يراود تفكير هيئة تحريرها منذ إطلاقها في مارس 2020م، لجهة التوثيق للفن اليمني، بعد تعرضه لتجريف طويل، وتشويه متعمد في ظل تساهل المؤسسة الرسمية، وكان على رأس الأسئلة الحاضرة والملحَّة أمامها: كيف سيتم التنفيذ مع الحفاظ على استدامة النشر في هذه الزاوية؟
- ختاماً:
أُعوَّل كثيراً على المهتمين من الأصدقاء والزملاء، وقبل ذلك من أساتذتي الأجلاء، بتزويدي بالملاحظات، والتصويبات، والإضافات، التي ستتم على هذا الكتاب؛ مع اعتذاري الشديد لكل من لم يذكر أو يُشار إلى إسهاماته الثرية في مدوَّنة الغناء والموسيقى في هذه الطبعة.
(صنعاء 1 يوليو 2023م)