مقالات
نزيف رؤوس الأموال
من أراد أن يعرف كيف يكون شكل البلدان عندما تغيب الدولة، فعليه أن يقرأ عن العشر السنوات الأخيرة لليمن.
الأمن والاستقرار السياسي من أبجديات الاستثمار، وعندما يقال إن "رأس المال جبان"، فهذه قاعدة أساسية، فهو لا ينمو إلا في بيئة مهيّأة بالأمن والاستقرار والشفافية والقضاء المستقل، وغياب تلك معناه تآكل ذلك المال.
غياب عامل واحد من عوامل المناخ الاستثماري الجاذب يجعل البلد موسوما بالبيئة الطاردة، فما بال اليمن وفيه جمارك مزدوجة وضرائب وإتاوات خارج القانون، ومقاسمة المستثمرين رؤوس أموالهم دون حق، والسلاح هو القانون، ورجال أعمال يقادون إلى السجون، وأجهزة ابتكرت بمسميات مختلفة لمصادرة شركات وأموال الناس.
كل تلك العوامل وأكثر كانت حاضرة خلال سنوات الحرب، وتسبّبَت في هروب رؤوس الأموال إلى الخارج؛ إذ بلغت حتى العام ألفين وواحد وعشرين أكثر من ثلاثين مليار دولار، فيما سيطرت جماعة الحوثي في صنعاء، عبر ما أسمته "الحارس القضائي"، على نحو مئة شركة ومؤسسة تابعة للقطاع الخاص.
في ظل ذلك المسلسل، تم اقتحام شركتين متخصصتين في صناعة الدواء؛ هما الدوائية الحديثة والعالمية، تنتجان نحو خمسمئة صنف من الدواء، وبدلاً من تشجيع الاستثمار في هذا المجال يتم التعامل معه بهذه الصورة.
قبل جائحة ألفين وأربعة عشر، وحين كنت أعمل في إحدى المجلات الاقتصادية، وأثناء حوار مع أحد رجال الأعمال اليمنيين، وكانت تلك فترة استقرار، قال لي: "لولا دافع الوطنية ومسؤوليتنا تجاه أبناء الوطن لسحبت كل استثماراتي إلى خارج حدود البلاد".
كانت حجته عدم التعامل بقانونية إلى جانب ضعف البنية التحتية، والتزامه بتوفيرها من أجل أن يستثمر، في حين أن الدول لم تعد تتحدث عن بنية تحتية، وإنما تمنحك قروضاً بنكية وإعفاءات ضريبية لمدة لا تقل عن خمس سنوات من بدء الإنتاج.
إذا قلنا إن اليمن بلد العجائب فذلك صحيح، فهو البلد الذي يصبح فيه من يصل إلى السلطة ثرياً، وخلال العشر السنوات الأخيرة أصبح الأثرياء يولدون، ليس فقط على حساب المال العام، وإنما أيضا على حساب القطاع الخاص.
في غمضة عين وجدنا جماعة تحرك الاقتصاد وتتحكم به، وبيدها البيانات المالية للدولة، وتحت قبضتها المراكز الرئيسية للشركات الخاصة، وحلت أسماء بلا رأس مال ولا تاريخ تجاري محل شركات ومؤسسات عريقة، وحتى الكيانات التي تمثل القطاع الخاص الحقيقي باتت بيد آخر طفيلي.
هذه الصورة عن اليمن تحتاج إلى عقود من الزمن لترميمها أمام المستثمرين المحليين والأجانب، وبذلك نجزم أن البلاد تبتعد جداً عن طريق التنمية.