مقالات
وحرب إبادة في السودان
منذ أكثر من عام، تشهد السودان حرب إبادة لم يعرفها السودان في تاريخه، ولأول مرة في التاريخ تكون الحرب ضدًا على إرادة الشعب السوداني.
هي حرب مفروضة من الحكام أنفسهم: الجيش (الفلول والكيزان)، والجنجويد الموصوم بجرائم الحرب في دارفور، واقتراف جرائم النهب والاغتصاب.
عبد الفتاح البرهان - قائد الجيش - وحميدتي -قائد مليشيا الدعم السريع- هما ذراعا البشير، وهما الآن يتقاتلان على رأس الشعب السوداني (ضحية صراعهما).
تتحدث وكالات الأنباء، وتقارير الأمم المتحدة عن أحد عشر مليون نازح، وأكثر من عشرين ألف قتيل، وأكثر من 25 مليون بحاجة إلى المساعدة الغذائية، لكن مجرمي الحرب في السودان يريدون التسابق أو منافسة مجرمي حرب الإبادة في غزة - اليهود الصهاينة - الذين يقتلون، ويبيدون شعبًا يحتلون أرضه منذ 75 عامًا، أما ذارعا البشير: البرهان، وحميدتي، فيقتلون شعبهما؛ هذا الشعب الذي يحكمونه منذ عقود، ويتقاتلون على استعباده ونهب ثرواته، ولخدمة مصالح أعداء السودان.
القوى السياسية: قوى الحرية والتغيير التي قادت الانتفاضة منذ 2018، وتُوجت الانتفاضة المتواصلة بسقوط الطاغية عمر البشير في العاشر من نيسان 2019 انقسمت على نفسها كدأبها منذ الاستقلال عام 1956.
في الإعداد للاستقلال تحالف الحزب الوطني الاتحادي: المراغنة، مع حزب الأمة (الأنصار) تحالفًا تكتيكيًا، وكلاهما يعمل ضد الآخر، ولكنهما يختلفان إستراتيجيًا، ويتفقان على استبعاد وضرب الحزب الشيوعي السوداني، وإقصاء الجنوب باعتباره كافرًا، كما اتفقا على إقصاء وتهميش الإثنيات الأخرى في مجتمع فسيفسائي متعدد الديانات، والإثنيات القومية والأعراق: الزنوج، والأفارقة، وعشرات اللهجات والعشائر القوية.
الانقلابات في السودان مكرورة: عبود 1958، والنميري 1969، والبشير - الترابي 1989، وانقلاب البرهان وحميدتي ضد سيدهما البشير، ثم انقلابهما ضد بعضهما، والمأساة أن القُوى التقليدية: الأمة، والاتحادي الوطني، كانت لا تعترف بالتنوع والتعدد والاختلاف، وترى أن العروبة هي التي يجب أن تتفرد بحكم السودان، وأن الإسلام هو الوطن، وأن المسيحيين والوثنيين -وهم كل الجنوب- لا يجب أن يشاركوا في الحكم، ويمتد الإقصاء والتهميش إلى الولايات الأخرى في النوبة، ودارفور، وشرق السودان.
كتاب الدكتور منصور خالد «النخبة السودانية وإدمان الفشل» يتناول قضايا هذه النخب الفاشلة التي تحالفت وغدرت ببعضها، وتحالفت مع العسكر ضد بعضها، ونكبها العسكر.
تحالف الأنصار المهديون مع انقلاب عبود للخلاص من الخصم السياسي التاريخي (الاتحادي الوطني - المراغنة)؛ فانقلب عبود على الجميع.
أيّد الأنصار انقلاب جعفر محمد النميري؛ ليشن الحرب ضد الأمة: المهدي في آبا، وتحالف الإخوان المسلمون السودانيون والعرب مع الإمام جعفر محمد النميري، وأعطوه البيعة، ودعوه أمير المؤمنين، وكان مصيرهم السجون.
وغدر البشير بإمامه حسن الترابي الذي غدر بالشعب السوداني بسن قوانين سبتمبر، وقتل الداعية الإسلامي زعيم الحزب الجمهوري محمود محمد طه.
الأحزاب كلها أسهمت في إشعال الحرب ضد الجنوب، ولكن الجبهة الإسلامية القومية والترابي أول من رفع شعار «وحدة العقيدة أهم من وحدة التراب»؛ فالوطن لدى الإسلاميين هو العقيدة.
الباحث منصور خالد في كتابه الضخم الواقع، في مجلدين، يستثني حزبين: الحزب الشيوعي، والحزب الجمهوري - حزب الشهيد محمود محمد طه- من تشجيع الحرب ضد الجنوب، أو مسايرة أحزاب الشمال التقليدية والحديثة في إقصاء الجنوب، والإثنيات الأخرى بعد مذبحة الكلية العسكرية التي قتل فيها البرهان وحميدتي ما يزيد عن مائة مواطن سوداني.
طلب البشير من البرهان وحميدتي مواصلة القتل؛ فالمذهب المالكي -كما أفتاهم- يجيز قتل الثلث إذا تمترس فيهم الكفار، وهي الفتوى نفسها التي أفتاها الديلمي والزنداني في الحرب ضد الجنوب اليمني.
انقلب البرهان وحميدتي ضد البشير، وفتحا حوارًا مع جماعة نداء الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، وتشكلت حكومة حمدوك تحت هيمنة البرهان وحميدتي، ولكن الانتفاضة تصاعدت ضد العسكر والجنجويد وضد المنشقين من الحرية والتغيير.
امتدت الانتفاضة إلى كل مدن وقرى وأرياف السودان؛ فيعود البرهان وحميدتي لينقلبا على حليفهما الحرية والتغيير (المجلس المركزي). يُعتقل حمدوك وبعض وزرائه، وتتواصل الانتفاضة وتتجذر؛ ليبدأ التفاوض من جديد بين حلفاء الأمس؛ فيتفق حميدتي وإعلان الحرية والتغيير على «اتفاق إطاري».
اتخذ الاتفاق الإطاري شكل الصفقة ما بين حميدتي وإعلان الحرية (المجلس المركزي) على حساب الجيش فيما يتعلق بدمج قوات الدعم السريع في الجيش.
التحالفات المغشوشة والمتوارثة والملغومة هي بلوى النخب السودانية القديمة والحديثة. بدأ حميدتي وإعلان الحرية والمشتركون في الغدر يغدر بعضهم ببعض؛ فالأطراف الثلاثة منقلبون على الانتفاضة الشعبية التي عمت السودان، وكانت تدق أبواب النصر لإخراج العسكر من الحياة السياسية، وبناء دولة مدنية ديمقراطية؛ (وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض).
الحرب المسعرة ضد الشعب السوداني إرادة مشتركة بين هذه الأطراف الهاربة من جرائمها إلى حرب الإبادة التي يريدون أن ينافسوا بها حرب الإبادة في غزة، وربما يريد الجنجويد أن يتفوق بإحراق القرى ونهبها، وإشاعة الاغتصاب.
وسواء اعترفنا بالمؤامرة، وهي موجودة فعلاً، أو لم نؤمن؛ فإن ما يجري في السودان جرائم حرب، وضد الإنسانية، وحرب إبادة لا تقل في طبيعتها الإجرامية عما يجري في غزة، والضفة الغربية.
مأساة شعب السودان أن التنوّع والتعدد فيه الذي يمثل مصدر قوة وغنى يصبح أو يُحَول إلى مصدر إضعاف وتصارع وإبادة من قِبل قيادات عسكرية ومدنية مدموغة بالتآمر والاستبداد والفساد، وتتعكز العروبة والإسلام لإعطاء مشروعية لطغيانها وتفردها بالتسلّط. اللقاء الأخير في القاهرة بين الكتلتين: كتلة الحرية والتغيير (تقدّم)، والحرية والتغيير (الديمقراطية)، ورفض الأخيرة الاجتماع مع (تقدّم) إلا بعد إدانة ممارسات قوات الدعم السريع، والبراءة من جرائمها.
وحقيقة الأمر، تتوزّع الكتلتان على خارطة الحرب؛ ففي حين تنحاز أو بالأحرى ترتبط كتلة (تقدّم) بشكل وثيق بالدعم السريع، فإن الديمقراطية تظهر انحيازًا للجيش، وقد التحق بها بعض أدوات الحرب، وجرى الالتفاف على المقاومة الشعبية الرافضة للحرب، ولطرفي حرب الجرائم والإبادة، فكل طرف منهما يريد التفوق على الآخر بالانفراد في ارتكاب الجرائم، وكلاهما يريد إبراز التفوق على ما يرتكبه نتنياهو وقادة الحرب الصهاينة، وأنَّى لهم ذلك.