مقالات
"يا أخي اتخارج".. كيف لخص محمد عبدالولي مأساة اليمني في عهد الإمامة؟
في مجموعته القصصية "شيء اسمه الحنين"، وفي قصة بعنوان: "يا أخي اتخارج"، يلخّص محمد عبدالولي معاناة اليمني في عهد الإمامة، وكيف كان عسكري الإمام يعبث بالمواطن دون أي سبب، يتهجم إلى منزله، ويستدعيه للحضور إلى مسؤول الإمام.
وحينما يتساءل اليمني: ماذا فعل كي يُستدعى؟ وهو يعرف نفسه جيدًا أنه لم يرتكب خطأ، ولم يؤذِ نملة، ولم يتشاجر مع أحد قط، لكن عسكري الإمام لم يسمح له بالتساؤل، فيرد عليه: "قلنا لك جاوب بلا غنج." هنا يصبح اليمني قد ارتكب جريمة السؤال، فلا يحق له أن يسأل.
العسكري يصيح بوقاحة: "هذا يلعن الحكومة... يهين ممثل الدولة، اشهدوا يا خلق الله... يقفل الباب في وجه الحكومة". لم يدعْ لليمني فرصة أن ينطق، وإذ بالأطفال والنساء والرجال يبدأون بالتجمّع، بينما الرجل لم يستطع أن يدافع عن نفسه ولو بكلمة واحدة، والعسكري يستشهد بالناس، ويجرّم الرجل وهو ممسك بتلابيب قميصه.
الإمامة بطبيعتها، وفي جوهر حكمها الظلامي، تنظر إلى الفرد اليمني بعين الاستحقار والاستنقاص. اليمنيون قبل سبتمبر وفي عهد الحكم السلالي كانوا رعايا للحاكم المقدَّس، أدوات زهيدة في يد الجلاد.
وهناك معلومة سائدة؛ بل هي حقيقة: "عسكري الإمام، وكيف كان يفعل عندما يأتي إلى بيت اليمني، لينهبه، أو ليلقي القبض عليه، ويقيَّده بسلاسل الطاغية، يأخذ بندقيته، ويمسك بها في كلتا يديه بشكلٍ عرضي، ليدخل الدار. واليمني معروف في حِرفيته ومهارته في فن العمارة، فلا شك أن باب الدار أو المنزل ليس مناسبًا لأن يدخل منه جندي الإمام هو وبندقيته بوضعيتها المعروفة، التي يتخذها لكسر إرادة اليمني، والهيمنة التي يستقوي بها على الضعيف. فإن لم يتسع له الباب بالدخول، يقوم بهدم الجدار القائم عليه الباب. ليس اليمني بضعيف؛ لكنه كان حينها إن تجرّأ على الاعتراض سيُكبَّل، وربما سيُعدم، فالإمام الطاغية كان يفعل أي شيء من أجل ألا يعلو صوت أحد على صوته، أو يخالف أمره. فالجندي المبعوث هو مثال لجبروت الطاغية".
الكاتب في هذه القصة يلخص كيف أن السلالي يبعث الجندي ليطلب أحدهم دون أي سبب، فقط ليعبث به، ويسلبه حقه في الكرامة، وليقول للناس عن طريق هذا الفعل: إن اليمني ما هو إلا كائن بلا إرادة، أداة طيّعة في يد الجلاد، وأن كل من يتجرأ ويتساءل: لماذا؟ يلاقي مصيره من الضرب والتعنيف.
في هذه القصة يقبض الجندي على المواطن، ويأتي به إلى مكان المسؤول - بعد ما حدث بينه وبين الرجل من اختلاف والناس ينظرون - وعندما يصل الرجل وقميصه مُمزق، يتقاذفه جنود الإمام، كلٌّ يرمي به إلى الآخر. وكان قد حضر معه بعض من الرجال الذين كانوا حاضرين أمام منزل الرجل. لم يصل إلى مسؤول السلالة بسهولة، بل وبعد كل الذي حدث له، كانت هناك صعوبة للقاء مع الآمر بالقبض.
وعندما جاء المسؤول أخبره الجندي: "هذا رفض يجاوب يا فندم، وسب الحكومة وأهانني قدام الناس"، مشيرًا إلى الناس. الكاتب يستحضر هنا شخصية اليمني الذي يُحرم من الدفاع عن حقه، وعنجهية السلالي. حينها صاح قائدهم للرجل - ودون أن يسأل أحدًا من الناس، بيد أن الجندي أشار للناس مستشهدًا بهم - قائلًا: "ومن تظن نفسك؟ هيا هيا، أدخلوه الحبس وقيدوه".
كان يُسجن اليمني دون أن يعرف ماذا ارتكب من جريمة، يُكبَّل، ويُقيَّد، ويُهان، ولا يجد فرصة للدفاع عن نفسه. حتى وإن اعترف السلالي أن اليمني بريء، لا يسمح له بالعودة إلى منزله، ولا يُفك قيده إلا إذا دفع ثمن كرامته، ونزف دمه، ودفع المال للطاغية، مقابل ما فعله به، وثمن فك قيده.
وهنا يستحضر الكاتب شخصية الرجل اليمني الذي أُقتيد إلى السجن، وحينما شهد الناس له بأنه رجل طيب، لا يؤذي أحدًا، وأنه يعول أسرته، يأتي هنا الطاغية متنصلًا مما قام به. يسأل الرجل - في هذه القصة - عن اسمه، فيجيبه: "فارع علي سعيد".
فيسأله: ما سبب رفض الوصول؟ هنا الرجل يقول للسلالي إنه عندما طُلب منه الحضور تساءل مستغربًا: ما الذي فعله، وهو يعرف أنه لا يوجد بينه وبين أحد مشاكل.
المسؤول في القصة يسأل جنوده لماذا أحضروه، لكأنه لا يعرف شيئًا. وهذا الشيء معروف عند كل الطغاة؛ حينما يدركون أنهم كادوا أن يُعرفوا بجرائمهم، يتنصلون عن الجريمة. يجيبه الجنود أنه هو من طلب منهم أن يحضروه. وقتها فكر لمدة قصيرة، لكأنه لا يعلم عن فعله المشين، يبحث عن شيء أمامه، ثم يحاول دس كذبه في الموضوع، قائلًا: "أنا طلبت منكم فارع علي سعيد صاحب المجزرة والذي اشتكوا منه الناس أنه يبيع البقري ويقول إنه رضيع".
الحيلة التي ينقذ بها نفسه الجلاد تبدو أشبه بمهزلة سخيفة، كذبة هشة، لكنه يدرك أنه يحكم بالتجهيل. الجميع يعرف أن الرجل صاحب دكان، لم يكن يومًا جزارًا، لكن ما زال المظلوم هو المذنب، والطاغية يتظاهر بالبراءة. وعندما تكون الجريمة واضحة يُلقي الجلاد بالتهمة على الجنود. سأله بعد أن أقسم الرجل أنه لم يكن يومًا جزارًا: "ها كيف؟". فيجيبه العسكري: "سألت عن فارع علي سعيد وقالوا لي: هذا، وأشاروا لي على بيته." هنا يقول له المسؤول: "ولكني قلت لك إنه في المجزرة". هكذا تتنقل الكذبة كحجر قافز بين الألسنة كي لا تسقط، ويُراد للجمهور أن يتعوّد ابتلاع ما يرى خلافه. إنها إدارة منهجية لتشويش الإدراك الجمعي.
يرد العسكري أنه سأل الناس وأشاروا له إلى بيت الرجل. كذبة واضحة، كانت تجبر اليمنيين على تصديقها، ولو أنهم يعرفون أنها كذبة. لكن لم يُفك قيد الرجل بعد هذا بسهولة، إذ على اليمني أن يدفع ثمن سجنه: سجنوك، وعذبوك، وأهانوك، وعليك بدفع المال للذي فعل هذا... "والأجرة يا فندم؟"، هكذا قال الجندي لسيِّده بعد أن أمره بفك القيد؛ أجرة الجندي الذي مزق ثوبك، ورمى بك إلى السجن، وقيَّدك.
حينها قال المسؤول للرجل: "ادفع الأجرة وحق فك القيد وتوكل على الله". يعرفون الله في النهب، يستشهدون به في السلب واللصوصية، ولا يعرفونه في الإنسانية.
يقول الكاتب بلسان حال الرجل، وفي نهاية القصة: "حاولت أن أنطق، ولكن أحد الناس الذين جاؤوا معي من الحارة دفعني إلى الخارج، وقال واحدٌ منهم هامسًا: يا أخي اتخارج وتوكل على الله". عند هذه اللحظة يرتفع العنوان من كونه نصيحة فردية إلى خلاصة مرحلة كاملة. التخارج ليس حيلة عابرة للنجاة من جندي، وإنما أسلوب حياة صنعه الخوف. إنها معادلة بقاء مريرة: اخرج من طريق العاصفة كي تستمر في التنفس. وهكذا تتحول الكلمة إلى شِعار غير مكتوب لزمنٍ بكامله.
قصة "يا أخي اتخارج" لا تحكي عن رجلٍ واحد، وإنما عن مجتمعٍ جرى تدريبه على الانسحاب. المواطن صار كائنًا بلا إرادة في عين السلطة، أداة طيّعة في يد الجلاد. وكل من يتجرأ ويسأل: لماذا؟ يواجه مصيره من الضرب والتعنيف. المأساة هنا ليست في حادثةٍ بعينها، وإنما في انتظام الحوادث على شكل نمطٍ يعيد إنتاج نفسه: اتهام جاهز، جمهور صامت، إنكار رسمي، ذرائع مرتجلة، ثم ابتزازٌ موثق بإيصالٍ يسمّى "أجرة".
لقد بَرع عبدالولي في تحويل الواقعة الصغيرة إلى علامةٍ على بنية اجتماعية وسياسية. العبارات المقتبسة - "جاوب بلا غنج"، "يسب الحكومة"، "والأجرة يا فندم" - ليست زخارف سردية، وإنما مفاتيح تحليل: الأولى تصادر الحق في السؤال، والثانية تُحوّل السلطة إلى معبودٍ يحرّم نقده، والثالثة تؤسس لاقتصادٍ قيمي يقوم على بيع الكرامة بالتقسيط. القصة بذلك تشتغل على ثلاث طبقات: طبقة الحدث، وطبقة الرمز، وطبقة البنية التي تُنتج الحدث والرمز معًا.
"يا أخي اتخارج" عنوانٌ يُقفل القصة ويُفتح على التاريخ. إنه عبارة تلتقط مصيرًا جمعيًا عاشه اليمنيون: يدفعون للجلاد مقابل إسالة دمهم، يخرجون محطمين من غرف التحقيق إلى الأزقة ذاتها، ويُسكتون أصواتهم لأن الاعتراض قد يكلّف الحياة. النص لا يكتفي بإدانة الماضي، وإنما يورّث القارئ جهاز قراءةٍ للمستقبل: أيُّ سلطةٍ تبدأ بتجريم السؤال ستتوسل حتمًا بالجدار المهدوم وبالفاتورة المدفوعة وبالجمهور الصامت كي تبقى. ومن هنا ينهض المعنى الأبعد: استعادة الصوت شرطٌ لردّ الكرامة إلى مكانها الطبيعي، وشرطٌ لإغلاق طريق التخارج المفتوح على اتساعه.
كم مرة تتكرر أمام اليمني عبارة "يا أخي اتخارج"، في مناطق سيطرة الإمامة الجديدة؟