مقالات
14 أكتوبر.. في المعاينات المتعددة لمفهوم الكفاح المسلح!!
المعاينة القريبة، التي تقترحها عتبة العنوان، تتصل بالقراءات اللصيقة بالحدث، وانتجها العديد من الأشخاص القريبين منه والمشاركين فيه - في بعض من كتاباتهم- وهي تبعاً لهذا التعيين تصير المجهر اللاقط من نواح عدة للحدث ومستلهماته ومساراته أيضاً، وهي ما ستحاول طرقه هذه المادة المتماهية مع الذكرى، التي صنع مشهديتها ثوار الجنوب اليمني المحتل ومناضلوه السياسيون قبل أزيد من ستين سنة.
لكن قبل ذلك، لا بُد من استكشاف الأرضية، التي تأسست عليها اللحظة الثورية الملهمة، وتحديداً عندما اختطت السلطة الاستعمارية البريطانية مساراً تمييزياً بين أبناء سكان المستعمرة عدن ومناطق المحميات الشرقية والغربية، التي عقدت معها اتفاقات استشارية لإدارة قرارات وموارد السلطنات والمشيخات المتناثرة على أكثر من عشرين رقعة جغرافية من المهرة حتى تخوم باب المندب، مروراً بسلطنتي الساحل والوادي في حضرموت (القعيطي والكثيري)، وسلطنات شبوة في بلاد الواحدي والهبيلي في بيحان والعوالق بقسميها، وأبين الفضلية ولحج العبدلية ومشيخات يافع الثلاث والضالع والحواشب وبلاد الصبيحي والعقربي وغيرها من التكوينات التفتيتية، التي حاولت لملمتها صورياً في دولة اتحادية في أواخر الخمسينات (1959)، تحت مسمى اتحاد إمارات الجنوب العربي لكن الأمر لم ينجح بسبب التباينات والتنافسات بين زعماء هذه التكوينات البدائية، لكن ضغوط الإنجليز أثمرت إعلان اتحاد الجنوب العربي في العام 1964م بضم عدن إليه، وكل ذلك لقطع الطريق على الحركة الوطنية المُطالِبة بعودة ما يسميه الاستعمار بالجنوب العربي لجذره اليمني بوصفه مناطق مُستعمرة (محتلة)، بعد أن بدأت تتوسّع الأنشطة المناهضة للسلطة الاستعمارية في عدن ومحيطها، وبروز ظاهرة الكفاح المسلح كخيار وحيد لطرد المحتل.
لكن قبل ذلك أيضاً، سنتوقف عند حالة مفصلية مهّدت لمسارات لاحقة؛ ففي 1949م، وبعد سنوات قليلة من سكوت مَدَافِع المتحاربين الكونيين، بدأت تظهر أصوات انعزالية في المستعمرة عدن تحدد نوعية المنتمين إليها من السكان الوافدين (أبناء الجاليات القريبة من سلطات الاحتلال)، رافعة شعار عدن للعدنيين، بعد استشعارها خطر التحولات الديموغرافية في المدينة، التي أخذت بالتوسّع والنمو بتحولها إلى موطن هجرة داخلية لكثير من سكان اليمن الداخل، والمحميات الشرقية والغربية الذين تحوّلوا إلى قوى منتجة في المجتمع الجديد.
هذا الخطاب استجلب إليه نخب المدينة، التي كانت ترى أن عدن لا يمكن لها إلاَّ أن تكون لعدنيي المخلقة الإنكليزية - الذين يحملون شهادة ميلاد تصدرها الدوائر الصحية والبلدية في المستعمرة البريطانية-، وإن الوافدين إليها من سكان المحميات وعرب المملكة المتوكلية ليسوا أكثر من عابرين في وقتها وجغرافيتها، استوجب وجودهم، بوصفهم قوى عاملة رخيصة، ذلك التصاعد العمراني والنمو الاقتصادي الذي شهدته المدينة بعد أن صمتت مَدافع المتحاربين في أوروبا وشرق آسيا (دول المحور والحلفاء)، وتحوُّل عدن، بعد الحرب الثانية، الى مركز متقدم (عسكري وخدماتي) للقوات البريطانية في المنطقة.
وبالمقابل أظهر "حزب رابطة أبناء الجنوب 1951م" نزوعاً مناهضا لهذا الصوت، بخلق مساحة تشاركية أوسع من نخب الجنوب (سلاطين وزعماء قبليين وبرجوازية ريفية ومثقفين سياسيين)، فبدأ هذا التوجّه أكثر وطنية وشعبية في انتمائه الجنوبي، الذي أصبح في أدبياته السياسية "الجنوب العربي"، بوصفة جزءا من الأمّة العربية والإسلامية، لا علاقة له بالهوية اليمنية!!
ورداً على هذين الصوتين، بدأت تتأطر المكوّنات المقْصيَّة والمهمَّشة من الوافدين في النقابات العمالية، التي أخذت زخمها، في مارس 1956، بتشكيل اتحاد نقابات العمال؛ وفي ظرف أعوام قليلة تحوّلت النقابات، ومؤتمراتها العمالية إلى خزان بشري، يرفد القوى السياسية والكفاحية الجديدة المناهضة للاستعمار بالمئات من الأعضاء المتحمسين، الذين وقعوا تحت تأثير تبشيرات الخطاب القومي (البعثي أولاً والناصري تالياً)، الذي وعد الجميع بالوحدة والتحرر والرفاهية!!" (1).
في هذه الأجواء، بدأت تظهر التكوينات السياسية ذات المنزع الكفاحي، وعلى رأسها الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل، التي تشكَّلت في أغسطس 1963، بعد أن حملت في البدء تسمية جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل، كما يقول أحد رموز الجبهة محمد سعيد عبدالله (محسن):
"تشكلت الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل في أغسطس 1963م، وقد حملت في البداية تسمية 'جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل'، وفيما بعد عدلت إلى الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل، تأكيداً على أن الجنوب اليمني المحتل جزء لا يتجزأ من الوطن الأم، وقد ورد في ميثاقها القومي الأول 'أن الجنوب والشمال يكونان اليمن الواحد ومن الطبيعي أن يكون اليمن جزءا لا يتجزأ من الأمة العربية.. ولتبدأ الجبهة القومية بتدريب المجاميع على الأسلحة والإعداد لفتح الجبهات العسكرية في الريف والمدينة، حيث لم يأتِ 14 أكتوبر كانطلاق للثورة المسلحة إلا بعد إعداد مسبق تنظيمياً وعسكريا للجبهة القومية" (2).
في واحدة من تنظيراته الباكرة، وهو يشغل موقع "الأمين العام للتنظيم الساسي الموحد - الجبهة القومية" في يوليو 1974 لخص عبد الفتاح إسماعيل رؤية الجبهة القومية لمسالة الكفاح المسلح بقوله:
"على امتداد سنوات الخمسينات وبداية الستينات كان الشعب قد تمرس على أساليب النضال الوطني، وخاض مختلف طرق النضال السلمي من أجل تحرره من الاستعمار البريطاني. في البداية الأولى للستينات بدأت تغزو بعض التنظيمات السياسية أفكار الكفاح المسلح، وكانت في الواقع تجسيداً لجوهر رفضها للوجود الاستعماري في البلاد، وكانت في نفس الوقت ملجأها الأخير، بعد أن أثبتت تجربة النضال السلمي فشلها، وعدم جدواها في الاضطلاع بالمهام الحقيقية للتحرر الوطني بفعل الطبيعة الاستعمارية الإمبريالية البريطانية، بل الطبيعة التي تلازم عادة كل المستعمرين في عصرنا الراهن. وكانت حركة القوميين العرب من بين التنظيمات الأخرى التي تبنّت أسلوب الكفاح المسلح طريقاً للتحرر الوطني. لكن كان تقييمنا لهذه المسألة، إننا لا نستطيع أن نبدأ الكفاح المسلح، قبل إسقاط النظام الإمامي الكهنوتي في صنعاء.
وقد كان تقييمنا لهذه المسألة صحيحاً، فبعد فترة بسيطة لترسيخ القناعة بضرورة الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني، قامت ثورة 26 سبتمبر، وتم إسقاط النظام الإمامي الكهنوتي، وقام النظام الجمهوري، وولدت ظروف ملائمة في صنعاء، يمهد لانتقال الكفاح المسلح من حيز الاسمان النظري إلى حيّز التطبيق العملي"(3).
وفي معاينة اليوم البحثية وبعد قرابة ستين عاماً تتكشف زوايا خبيئة عن تلك المرحلة، التي تتطلب استكشافاً قرائياً متخففاً من حمولات العاطفي وتحيزات الأيديولوجيا، وهو ما تقترحه مادة قادري أحمد حيدر (14 أكتوبر في جدل الوطنية اليمنية.. وعي بمعنى الوطن والحرية والاستقلال)، وهي تشير إلى بدايات الكفاح المسلح في الجنوب اليمني المحتل:
"إن أول من مارس الكفاح المسلح بالفعل، هي خلايا فردية غير منظمة قبلية ووطنية يمنية، من العديد من قبائل جنوب البلاد، والتي بدأت في العام 1957م/ 1958م، (قوات العاصفة) ومنها رموز قيادية شمالية، والعديد من الرموز السياسية القبلية الجنوبية، واسمت نفسها 'هيئة تحرير الجنوب اليمني المحتل'، منهم الأستاذ / محمد عبده نعمان الحكيمي، السلطان محمد بن عيدروس العفيفي، الرائد محمد أحمد الدقم، الشيخ على بن أبوبكر بن فريد الشيخ محمد صالح المصلي، مهدي عثمان المصقري، ومجموعة أخرى معروفة ومدونة في الوثائق والمصادر التاريخية المختلفة، على أن أول من نبّه إلى ضرورة تبنّي خيار الكفاح المسلح، كخيار سياسي وطني في وثيقة مكتوبة وضمن رؤية تنظيرية وفكرية وسياسية وتاريخية هي وثيقة أصدرتها 'حركة القوميين العرب' تحت عنوان 'اتحاد الإمارات الزيف مؤامرة على الوحدة العربية'، في العام 1959م، وهي -في تقديري- من أعمق وأهم الوثائق في التنظير السياسي والوطني لمعنى جدل الوحدة الوطنية اليمنية، بين الشمال والجنوب، والتي رأت أن نقطة الانطلاق والانتصار للثورة في الجنوب، هو تشكل ووجود نقطة انطلاق 'القاعدة'، للثورة، وذلك من خلال نجاح الثورة في شمال البلاد، وهي نبوءة مبكرة احتوتها الوثيقة، التي انتجت لاحقاً. ميلاد الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل" (4).
المعاينات القريبة للحدث والحضور في صلبه، وكذا الاطلالات عليه من القراءات اللاحقة، تقول إن الكفاح المسلح كان الأداة الناجعة لطرد المستعمر من أجل بناء وطن قوي يجمع كل أبنائه، عوضاً على كيانات ضعيفة هشة تغذى من ضعفها وتخلفها سلطة الاستعمار وأدواتها المحلية، التي صارت امتداداتها اليوم لا تخجل من الحنين لذلك الزمن. أو كما يقول الصحفي نجيب مقبل:
"أصحاب الحنين لعدن التي كانت أيام الاستعمار تجعلهم يحيدون عن توصيف الوجود البريطاني في عدن بالاحتلال، ويتمنون أن تعود أيام بريطانيا إلى عدن لمحو هذا القبح السائد في كل مكان من الفوضى والعشوائية وثقافة الفيد التي جلبتها سلطة 7/7.
وكل هذا الحنين الافتراضي لدى البعض من جيل الأحفاد أنساهم التوق إلى الحرية والانعتاق من احتلال دام 139 عاما، بل يستغربون التاريخ النضالي لثوار 14 اكتوبر ومما يرونه سذاجة الكفاح المسلح ضد محتل جعل مدينة عدن درة الجزيرة العربية. ربما تبدو هذه الاستعادات الافتراضية جزء من يأس عارم ناتج عن دولة وطنية تعثرت في إدارة البلاد وذهبت إلى المجهول في وحدة زادت من يأسها يأسا، لذا يكون حنين الضحية إلى الجلاد وتقليده نوعا من طوق نجاة لواقع مزر وجاثم بكلكله على حاضرهم ومستقبلهم"(5).
______________________________________
(1) من مادة للكاتب عنوانها "الوعي المناطقي واستفحاله في اليمن" https://belqees.net/articles
(2) محمد سعيد عبدالله (محسن) - عدن .. كفاح شعب وهزيمة إمبراطورية، دار ابن خلدون بيروت- دار الأمل صنعاء، طبعة ثانية يوليو 1989 ص11
(3) "سلطان ناجي، التاريخ العسكري لليمن 1839- 1967، دار العودة بيروت، الطبعة الثانية 1985- انظر مرحلة الكفاح المسلح ص265".
(4) https://www.khuyut.com/blog/october-rev
(5) مجتزأ "نوازع الحنين بلا رقيب وطني" من مادة صحافية عنوانها "تنويعات معاصرة في سفر ثورة أكتوبر".